نحمد الله على ما أولى من النعم، ودفع من النقم، نحمد الله على أن من علينا بفضله ومنّ علينا بعطائه ومد في آجالنا، وبلغنا آمالنا، ونحمده على أن هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ونحمده سبحانه أن من علينا بالفطرة الحسنة، وبالشريعة الإسلامية، وبالعقيدة السنية، وبالطريقة المحمدية، وبالهداية إلى الصراط المستقيم، الذي من سلكه فاز ونجا، ومن حاد عنه تردى وهلك، نحمد الله أن جعلنا من أهل السنة، وأن حمانا وحفظنا من البدع والمنكرات والمحدثات التي تخالف السنة وتنافي الشريعة الدينية.
لا شك أنها نعمة عظيمة، لا شك أنها من أكبر النعم، حيث وفقنا الله تعالى أن كنا من أهل السنة، أن عرفنا طريق النجاة، سبل السلام، الطريق السوي، الصراط المستقيم، وحرم ذلك خلقاً كثيراً، هناك الكثير من الدول ومن القبائل ومن الأمم لا يعرفون الإسلام، ولا يدينون به، بل يرونه عائقاً قاطعاً لهم عن السير في هذه الحياة التي هي غاية مطلبهم، والتي هي نهاية مقصدهم.
وهناك فئام من الناس يدينون بعقائد ضالة يدعون أنها أهدى سبيلاً، وأقوم طريقاً، وأنهم على سبيل النجاة، وأنهم تفوقوا على المسلمين، ودانوا بطريقة وبسنة وشريعة أهدى من الشريعة الدينية.
وهناك فئام ودول وقبائل وخلق كثير ينتسبون إلى الإسلام، ولكن ما معهم من الإسلام إلا مجرد الاسم؛ لأن عقائدهم تخالف العقيدة الإسلامية، وكذلك أعمالهم تخالف ما يدعو إليه الإسلام، فهم على شفا جرف هار، فهؤلاء حريٌ أن يموتوا وهم على تلك البدع وتلك المعاصي والمنكرات، فيكونون من أهل العذاب والعياذ بالله.
وهناك فئام وأمم كثيرة يتسمون بأنهم مسلمون، ولكن معهم محدثات ومنكرات وبدع يصور لهم الشيطان ويملي لهم، ويزين لهم أنهم على الحق والهدى، وأنهم أهدى سبيلاً من أهل السنة والجماعة، ويفتخرون بتلك الأسماء التي ينتحلونها وينتمون إلى قادتهم وأئمتهم، وهم يعتقدون أنهم على حق، ولكنهم على باطل، ولم يقبلوا هدى الله، ولم يقبلوا الدليل، ولم ينيبوا إلى الشريعة، بل زين لهم أن تلك النحل وتلك البدع هي التي من تمسك بها فهو على السنة، فجعل السنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقاً.
وهذا بلا شك من انتكاس البصائر، ومن عمى القلوب والعياذ بالله.
وهناك الكثير ممن يدينون بالسنة وينتسبون إلى أهل السنة والجماعة، ولكن زين لهم الشيطان بعض الذنوب، فوقعوا في المعاصي، ووقعوا في المخالفات وإن لم تكن مكفرات ولا بدعيات، ولكنها في الحقيقة ذنوب عظيمة، أصروا واستمروا عليها، واستحلوها وأتوا بها جهاراً وإسراراً، فقضوا أعمارهم وهم على تلك المعاصي وعلى ارتكاب تلك الكبائر، ولا شك أنهم إذا لم يتوبوا ولم يتب الله عليهم، استحقوا من العذاب بقدر ذنوبهم وسيئاتهم، وأنهم على خطر عظيم.
وهناك أيضاً آخرون لم يخالفونا في المعتقد، ولم يرتكبوا كبائر الذنوب، ولكنهم استمروا على الصغائر، فاحتقروها وتهاونوا بها، واستمروا عليها طوال حياتهم، والاستمرار على الصغيرة والإصرار عليها يصيرها كبيرة.
لا شك أن هذه الأقسام كلها موجودة، ولكن أشدها الذين ليسوا على دين ولا شريعة، بل لا يعترفون بالله رباً، ولا بالشريعة الإسلامية أو غيرها ديناً.
فإذاً ما دام أن الله قد نجانا من هذه الأخطار كلها، وهدانا إلى الحق، فليكن ذلك حافزاً على أن نتعلم الطريقة السنية، نتعلم السنة النبوية، حتى إذا عرفناها تمسكنا بها حق التمسك، وحتى نرد على كل من يخالفنا سواء كانت المخالفة في الأصول أو الفروع، وهذا هو -والحمد لله- ما نقوم به، وما نتلقاه في الخطب وفي الإذاعات وفي القراءات وفي الحلقات العلمية، وفي المحاضرات وفي الدروس اليومية والأسبوعية، كل ذلك إن شاء الله من الأسباب التي يفتح الله بها على عباده وينجيهم.
وكذلك ما يمر علينا في هذا الكتاب الذي نقرؤه على عقيدة أهل السنة الذين ألفوها واجتهدوا في تأليفها، ونصحوا بها الأمة حتى يبينوا لهم ما هم عليه وما يفعلونه وما يحذرونه.
وقد وصلنا إلى مباحث القضاء والقدر، ومباحث الأمر والنهي، والتكاليف، وقدرة العباد على أفعالهم، أو ما أشبه ذلك.
وهي لا شك من المسائل الصعبة، من المسائل العسيرة التي تحتاج إلى تعقل، والتي خالف فيها الخلق الكثير، والتي ولدوا فيها شبهاً، وولدوا فيها تشكيكات تبرر لهم بزعمهم ما هم عليه من القول بالجبر، أو من القول بإنكار القدرة الإلهية، ولكن قيض الله لهم أهل السنة فبينوا لهم ما هم فيه من الحيرة، وأجابوا عما ولدوه من الشبه، وبينوا الجواب الصحيح لمن انحرف عن السنة والجماعة.
وإذا تأمل القارئ هذه الشبهات التي يولدونها، وعرف جوابها الصحيح من أهل السنة قنع بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أمر العباد ونهاهم، وقنع بأنه ما أمرهم إلا وهم قادرون على تنفيذ ما أمر به.
وقنع بأنهم لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليه، وأنه تعالى أعطاهم ومكنهم وقواهم وجعل لهم استطاعة يزاولون بها الأعمال من طاعات ومعاص، كما يتسببون بها في تحصيل أسباب الرزق، وكل ذلك لا يخرج عن قدرة الخالق.
فله القدرة وله الاستطاعة الغالبة لكل قدرة، ولكنه سبحانه لما أعطاهم هذه القدرة نسبت إليهم، وأصبحوا هم المزاولين للأعمال، فهم الذين يصلون ويصومون ويزكون ويتصدقون، وهم الذين يؤمنون ويسلمون ويحسنون ويقبلون ويتعبدون، ويثابون عليها، كما أنهم الذين يسرقون ويزنون ويسكرون ويرابون ويرشون ويعصون ويفعلون المحرمات ويعاقبون عليها.
وإن كان الله تعالى هو الذي قدر ذلك كله في هذا الكون، وهو الذي مكن لهؤلاء وأعطاهم هذه القدرة التي زاولوا بها الطاعات، أو زاولوا بها المعاصي: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] .