وقد عرفنا القولين الذين هما طرفان في هذه المسألة: الطرف الأول: هو قول المجبرة الذين سلبوا العباد قدرتهم واختيارهم، وجعلوهم مجبورين، ليس لهم أي قدرة أو إرادة، وليس لهم همة ولا عمل ولا أثر في الأعمال، وجعلوا حركاتهم بمنزلة حركات الأشجار التي تحركها الرياح! وأبطلوا حكمة الله تعالى؛ فإذا سئلوا: لماذا أرسل الله الرسل؟ ولماذا يُعذب الله الكفار؟ ولماذا خص الله المؤمنين بأنهم أهل الثواب؟ لم يكن لهم من جواب إلا أن ذلك محض المشيئة، ومحض الاختيار، ومحض الإرادة، وليس لأحد فيه تصرف، وأكثر ما يرددون قول الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ويقولون: إنه قدر ذلك عليهم وخلقه فيهم، ويعذبهم على فعله فيهم، ولكن لا يُسئل عن ذلك!! وأما الطرف الثاني: فهم المعتزلة الذين أرادوا تنزيه الرب تعالى عن أن يعذبهم على أمر خلقه فيهم كما يقولون، فجعلوا أنفسهم هي التي تباشر وتخلق الفعل، ولم يجعلوا لله أي قدرة, بل كثير منهم يقولون: إن الله لا يقدر على أن يهدي من يشاء، ولا أن يضل من يشاء، بل العباد يهدون أنفسهم أو يضلونها! فهؤلاء طرف هالك بعيد عن الصواب.
وهدى الله تعالى أهل السنة فآمنوا بعموم قدرة الله، وآمنوا بأن له قدرة عامة غالبة على أفعال العباد، وآمنوا بأنه خلق أفعال العباد، وكتبوا في ذلك المؤلفات، كما كتب البخاري في ذلك رسالته المشهورة: (خلق أفعال العباد) .
وبينوا أن قدرة العبد هي التي تناسبه، والتي بها يثاب ويعاقب، وأنها مع ذلك مغلوبة بقدرة الله تعالى، وبذلك يستحق العبد الثواب أو العقاب على ما يزاوله من الأعمال التي تنسب إليه؛ لأنه هو الذي باشرها.
ومع ذلك لا يخرج عن إرادة الله تعالى، والهداية بيد الله؛ فهو الذي هدى هؤلاء وأضل هؤلاء، فأضل هؤلاء حكمة وعدلاً، وهدى هؤلاء رحمة وفضلاً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.