قال المؤلف: [وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور) ، وهذا صعق في موقف القيامة، إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذٍ يصعق الخلائق كلهم.
فإن قيل: كيف تصنعون بقوله في الحديث: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش) ؟ قيل: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل فيه على الراوي حديث في حديث، فركب بين اللفظين فجاء هذان الحديثان هكذا: أحدهما: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق) ، كما تقدم، والثاني: (أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة) ، فدخل على الراوي وهذا الحديث في الآخر، وممن نبه على هذا أبو الحجاج المزي، وبعده الشيخ شمس الدين بن القيم، وشيخنا الشيخ عماد الدين بن كثير رحمهم الله تعالى.
وكذلك اشتبه على بعض الرواة فقال: (فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل) ، والمحفوظ الذي تواطأت عليه الروايات الصحيحة هو الأول، وعليه المعنى الصحيح، فإن الصعق يوم القيامة من تجلي الله لعباده إذا جاء لفصل القضاء، فموسى عليه السلام إن كان لم يصعق معهم فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكاً، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضاً عن صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة، فتأمل هذا المعنى العظيم ولا تهمله.
وروى الإمام أحمد والترمذي وأبو بكر عن ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: سمعت أبا موسى الأشعري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فعرضتان: جدال ومعاذير، وعرضة: تطاير الصحف، فمن أعطي كتابه بيمينه، وحوسب حساباً يسيراً دخل الجنة، ومن أوتي كتابه بشماله دخل النار) ، وقد روى ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك أنه أنشد في ذلك شعراً: وطارت الصحف في الأيدي منشرة فيها السرائر والأخبار تطلع فكيف سهوك والأنباء واقعة عما قليل ولا تدري بما تقع أفي الجنان وفوز لا انقطاع له أم الجحيم فلا تبقي ولا تدعُ تهوي بساكنها طوراً وترفعهم إذا رجوا مخرجاً من غمها قمعوا طال البكاء فلم يرحم تضرعهم فيها ولا رقة تغني ولا جزعُ لينفع العلم قبل الموت عالمه قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا] .
تحقيقاً لما ذكرنا من الحشر والبعث بعد الموت أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أول من تنشق عنه الأرض، فدل على أنهم يجمع خلقهم ويكمل وهم في جوف الأرض، إما في نفس القبور، وإما بطن الأرض، ثم بعد ذلك تنشق الأرض عنهم فتخرج الأرواح والأجساد على وجه الأرض، فيقومون من قبورهم كما في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] الأجداث: هي القبور، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] ، كأنهم شعروا بأنهم قبل بعثهم كانوا نياماً قد رقدوا فيقال: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] .
والأنبياء لهم مزية، ونبينا صلى الله عليه وسلم أفضلهم، فهو أول من تنشق عنه الأرض، ثم بعد ذلك بقية الأنبياء، وأرواحهم في الملأ الأعلى، وكذا أرواح الشهداء قد رفعت، وأما أجسادهم فإنها في الأرض، بعد ذلك يبعثهم الله؛ لأنه أخبر بأن الأرض هي مرد كل إنسان في قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] ، وفي قوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] ، وهذا يعم الأنبياء وغيرهم، وبعدما يجتمعون في ذلك المجمع، وذلك الموضع الذي يجمع فيه أولهم وآخرهم، ولا يحصي عددهم إلا الله تعالى، ويطول وقوفهم، وقد أخبر في هذا الحديث أنهم يصعقون، وهذه صعقة جديدة، إما أنهم يسمعون صوتاً مزعجاً عندما تتشقق السماء بالغمام لتنزل الملائكة، فيكون من آثار تشققها أصوات مزعجة يصعق الناس فيها -يعني: يغشون- وتطول هذه الغشية، ويكون نبينا صلى الله عليه وسلم أول من يفيق، ولكن يجد موسى قد أفاق قبله، وفي ذلك مزية لموسى عليه السلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا أدري هل أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟) ، صعقة الطور: هي المذكورة في سورة الأعراف في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] ، فهذا صعق في الدنيا، يعني: كأنه جوزي بهذا الصعق.
وبكل حال فهذا الصعق يكون في الموقف، وفي الموقف أيضاً -بلا شك- أهوال عظيمة منها: العرض على الله تعالى، ومنها نصب الموازين ومنها تطاير الصحف، ومنها نشر كتب الأعمال التي هي دواوين الأعمال، كل ينشر له ديوان فيه أعماله، يقول الله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13-14] ، ويقرؤه من يقرأ ومن لا يقرأ، كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف:49] ، فهذه -بلا شك- حقائق يقينية دل عليها القرآن، ودل على أنه يحضر للإنسان كل شيء عمله من الخير والشر، فيسره أن يجد الحسنات مضاعفة موفرة، وأما إذا وجد السيئات فيستاء لذلك ويحزن، يقول الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداًً} [آل عمران:30] ، ما عملت من خير تجده محضراً، وما عملت من شر -يعني: من سيئات- تتمنى أنه يبعد عنها، وأنها لم تره؛ وذلك لأن السيئات -بلا شك- تسوء صاحبها، ويخاف من الجزاء عليها.
وبكل حال: هذه حقائق يجب الإيمان بها، ويجب أيضاً الاستعداد لها، والتأهب لما بعدها.