وردت أحاديث كثيرة تدل على إثبات عذاب القبر، وذكر الشارح بعضها كما سمعنا، وذكر ابن كثير في التفسير عند قوله تعالى في سورة إبراهيم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] أنها نزلت في عذاب القبر، وقد أورد عندها أحاديث كثيرة طويلة وقصيرة فيها ذكر ما يعرض على الميت في قبره وما يناله من العذاب، ومنها هذا الحديث الطويل الذي سمعناه، فنتأمل في هذا الحديث، ونأخذ منه عبرة.
يشترك المؤمن والكافر في أن ملك الموت يجلس عند رأس كل واحد منهما، إلا أنه يقول للمؤمن: اخرجي أيتها الروح الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان، ويقول للكافر: اخرجي أيتها الروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى سخط من الله وغضب.
أما روح المؤمن فإنه يسلها كما تسل الشعرة من العجين، أو تسيل روحه كما تسيل القطرة من فم السقاء، وأما روح الكافر فتتفرق في جسده فينتزعها بقوة كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، والسفود هو الذي له أطراف من حديد محددة، إذا أدخل في الصوف المبلول لا يخرج إلا بعد ما يتقطع الصوف، وبعدما يتقطع ما علق به، وأنت إذا أردت أن تخرج شوكة من وسط صوف أو قطن ما تخرج إلا بعد أن يتقطع الذي حولها، فروح الكافر تتفرق في جسده، وينتزعها الملك بقوة فتتقطع العروق، وتتقطع الشرايين، فلا تخرج إلا بقوة، وهذا دليل على أن هذا أول عذاب.
وبعدما تخرج الروح تأخذها الملائكة، فملائكة المؤمن كأن وجوههم الشمس، وملائكة الكافر سود الوجوه، ومع ملائكة المؤمن أكفان من الجنة، وحنوط من الجنة، والحنوط هي الأطياب التي يطيب بها الميت، فالميت يطيب بدنه بأنواع من الطيب، وروحه كذلك تطيبها الملائكة بحنوط من الجنة، وياسمين من الجنة، وأكفان من الجنة، وأما الكافر فإن روحه تجعل في تلك المسوح، وهو الخشن من ثياب الصوف الذي في غاية الخشونة، هذا الفرق بينهما.
بعدما يُصعد بها يخرج من المؤمن كأطيب ريح مسك وجدت على وجه الأرض، ويخرج من الكافر كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، مع أنها روح، ولكن هذه لها رائحة طيبة، وهذه لها رائحة خبيثة.
وكذلك المؤمن يسمونه بأحسن أسمائه في الدنيا، والكافر بأقبح أسمائه في الدنيا، والمؤمن يستفتح له فتفتح له أبواب السماء، ويشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء الثانية، وهكذا حتى تصل روحه إلى السماء السابعة، فعند ذلك يقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتصعد روحه وتصل إلى السماء السابعة، ويكتب كتابه في عليين كما في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] مشتق من العلو.
وأما الكافر فيقول: اكتبوا كتابه في سجين، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] سجين قيل: إنه مشتق من السجن، يعني: كأن أرواحهم مسجونة في أسفل الأرض السابعة، فيكون هذا مستقر أرواحهم، ومحل كتابهم، وروح الكافر لا تفتح لها السماء، {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] الجمل هو زوج الناقة، وسم الخياط هو ثقب الإبرة، فالإبرة التي يخاط بها لها ثقب يدخل فيه السلك الذي يخاط به، فكيف يتصور أن الجمل يدخل من ثقب الإبرة التي يخاط بها؟ والمعنى: أنهم لا يدخلون الجنة حتماً؛ لأنه لا يتصور دخول الجمل في سم الخياط.
كذلك روح الكافر تطرح من السماء طرحاً إلى الأرض، واستدل عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] في مكان بعيد، فتطرح روحه طرحاً.
وكل منهما تعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان يقال لهما: منكر ونكير كما سمعنا، ويسألانه عن ثلاث مسائل: عن ربه ونبيه ودينه، فيثبت الله المؤمن وينطقه بالصواب، ولو كان أمياً، ولو كان لا يقرأ، ولكن عقيدته التي مات عليها يبقى عليه أثرها، فينطقه الله بأن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، أما الكافر فكما سمعنا ولو كان قارئاً، ولو كان عالماً، ولو كان فاهماً، يزيغه الله ويضله، فلا يدري بالجواب، فيقول: هاه هاه! لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، وفي بعض الروايات: (يضرب بمرزبة من حديد) ، والمرزبة هي حديدة كبيرة لها رأس كبير، يضرب بها، يقول في بعض الروايات: (لو ضرب بها جبل لكان تراباً) ، وماذا يتحمل هذا الإنسان الذي يضرب بهذه المرزبة؟! ولكن لأن الله ما أراد إفناءه لم يفن، فيتألم بذلك وإن كنا لا نشعر بذلك، ولا تدركه أفهامنا.
ثم إذا سئل المؤمن وأجاب بالجواب الصحيح يقول الله: صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وريحانها، وينظر إلى منزله من الجنة، وفي بعض الروايات: (يفتح له بابان: باب إلى النار ويقال: هذا المنزل الذي أعاذك الله منه، وباب إلى الجنة ويقال: هذا منزلك الذي أبدلك الله به -فينظر إليهما ويراهما جميعاً، ويتمنى أن تقوم الساعة- فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، فيفسح له في قبره مد بصره) ، ويكون القبر عليه روضة من رياض الجنة، وإن كنا لا ندرك ذلك.
وأما الكافر والعياذ بالله فيقول الله: كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، فيكون عليه حفرة من حفر النار، وإن كنا لا ندرك ذلك؛ لأنه في عالم ونحن في عالم.