قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] والكلام على ذلك معروف في موضعه.
فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه، نظرنا في كلام الشارع: كيف ورد فيه الإيمان فوجدناه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر، والتقوى، والدين، ودين الإسلام.
ذكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان؟ فأنزل الله هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177] قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ والملائي قالا: حدثنا المسعودي عن القاسم قال: جاء رجل إلى أبي ذر رضي الله عنه فسأله عن الإيمان؟ فقرأ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177] إلى آخر الآية، فقال الرجل: ليس عن هذا سألتك، فقال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلت لي، فلما أبى أن يرضى، قال: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنه سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها) وكذلك أجاب جماعة من السلف بهذا الجواب.
وفي الصحيح قوله لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم) ، ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في مواضع أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان] .
قد ذكرنا أن هذا الموضوع يسمى (أسماء الإيمان والدين) أو (أسماء الأحكام) ، وعرفنا أن هذه المسميات كانت مستعملة في اللغة، ولكن لها معان معروفة عندهم؛ لكن ليست هي المعاني الشرعية، فلأجل ذلك نقلها الشرع إلى هذه المسميات الخاصة.
وقد ذكرنا أنهم يقولون مثلاً: الإيمان في اللغة كذا، وفي الشرع كذا، الإسلام لغة كذا وكذا، وفي الشرع كذا وكذا، التوحيد في اللغة كذا، والتوحيد في الشرع كذا، البر في اللغة كذا وكذا، والبر في لغة الشارع وفي لسان الشارع يراد به كذا وكذا، مثلاً: التقوى في اللغة مشتقة من التوقي، وهو الحذر من المخوف، وأما في لسان الشرع فهي توقي عذاب الله، وأن يجعل بينه وبين سخط الله وقاية وحاجزاً منيعاً، وذلك يكون بامتثال كل ما أمر، وتجنب كل ما نهى وزجر.
وهكذا بقية التعاريف.
أيضاً نقل أضدادها إلى مسميات شرعية، فالشرك له مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، والفسوق له مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، والذنوب لها مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، والكفر له مسمى في اللغة ومسمى في الشرع وما أشبه ذلك.
وهكذا -أيضاً- أسماء الأحكام: فالصلاة لغة كذا، وشرعاً كذا، والطهارة لغة كذا وكذا، وشرعاً كذا وكذا، والصوم والحج والجهاد والعمرة والزكاة وما أشبهها لها مسميات.
فنقول: إن الإيمان أصله في اللغة التصديق، وشرعاً: التصديق الجازم بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، مع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأداء الخمس من الغنيمة، كما في الحديث، هذه أقوال وأعمال، أقوال لسانية وأعمال بدنية أو مالية، وكلها جعلها من الإيمان؛ ولكن لابد معها من الإيمان الذي هو العقيدة، لابد أن يكون القلب قد عقد عليها، وإلا فلا تنفع، فإن الأعمال بدون إيمان القلب لا تفيد، فبذلك يعرف أن الشرع أضاف إليها إضافات أصبحت من مسمياتها، حيث فسر الإيمان بهذه الأعمال.
وقد ثبت في الصحيح أنه فسر بها الإسلام، فإنه لما سئل عن الإسلام فسره بالأعمال الظاهرة، وهي أركانه الخمسة، وفسر الإيمان بأعمال القلب، وهو الإيمان بالغيبيات وأركانه الستة، ومراده: أن هذا أصله التصديق بالأمور الغيبية وهي هذه الأركان، ومع ذلك لابد أن يكون له مكملات ومتممات، وهي بقية الأعمال البدنية.
فيقال: البر في اللغة: الصدق، والبار: الصادق، وقد قالوا: البر هو طاعة الوالد، كما يقال: أوصيك ببر الوالدين يعني: طاعتهما، فالبر لغة: طاعة الأبوين، أو الصدق في الحديث، ولكن الشرع جعله اسماً لكل الأعمال الخيرية، حتى أعمال القلب، فأدخل فيه أركان الإيمان، في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] ، فهذه خمسة من أركان الإيمان، وذكر السادس وهو القدر في موضع آخر، وجعلها أساساً للبر، ثم ذكر أعمالاً مالية، وجعلها داخلة في البر في قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة:177] يعني: هذا عمل مالي، وهو: إعطاء المال لهؤلاء، فجعله من البر.
ثم قال: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة:177] ، فهذه أربعة من الأعمال البدنية.
ثم قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] فأخبر بأنهم الذين صدقوا؛ لما قالوا: آمنا، فظهر إيمانهم على أبدانهم وعلى أموالهم، فهم قد صدقوا، وهم -أيضاً- أهل التقوى الذين توقوا أسباب الهلاك، وجعلوا بينهم وبين النار وقاية وحاجزاً منيعاً، فأصبحوا بذلك مستحقين لاسم التقوى.
وهكذا يقال في سائر المسميات الشرعية، وهو: أن الله تعالى شرع لعباده هذه الأشياء، وسميت بهذه المسميات، وأريد بها هذه المعاني التي تدخل فيها، ورتب عليها الأجر والثواب، فرتب الله على البر الثواب: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:13] ، ورتب على التقوى الجنة في قوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] أي: هيئت للمتقين، كما رتب ذلك على الإيمان في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:25] ، أجر غير ممنون على إيمانهم وعملهم الصالح، فمن صدق بذلك كله وعمله فهو المصدق، وهو المتبع لهذه الشريعة، ومن نقص حظه من ذلك نقص حظه من الأجر.