قال الشارح رحمه الله: [وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل: فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله.
وأما الزيادة بالعمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح: فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المخبر كالمعاين) ، وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبَر -وإن جزم بصدق المخبِر- قد لا يتصور المخبَر به نفسه كما يتصوره إذا عاينه، كما قال إبراهيم الخليل -صلوات الله على نبينا محمد وعليه-: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] .
وأيضاً: فمن وجب عليه الحج والزكاة -مثلاً- يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره الإيمان به إلا مجملاً، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل.
وكذلك الرجل أول ما يسلم، إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان] .
من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الإيمان -الذي في القلب، والذي في اللسان، وعلى الجوارح- يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] ، كيف زادهم إيماناً؟ أي: تصديقاً بخبر الله، وعملاً بآثار ذلك التصديق، فالله أخبرهم بأنه ينصرهم، وبأنه لا يخذلهم، فلما جاءهم هذا الخبر ما زادهم إلا تصديقاً بالله تعالى وبخبر الله، فدل ذلك على أن الإيمان يزيد، وكل ما هو قابل للزيادة فهو قابل للنقص.
وقال تعالى في سورة الأنفال: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] فسمعاها أو قراءتها تزيدهم إيماناً يعني: أنهم يعملون بها، ويصدقون بها، ويعرفون مدلولها، فيكون ذلك زيادة في أعمالهم.
وقال تعالى في سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، السكينة التي أنزلها في قلوبهم: الطمأنينة إلى خبر الله وخبر رسوله، والثقة بأنه ينصر من نصره، كما في الآيات الأخرى، فهذه الثقة زادتهم إيماناً؛ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، فدل على أنهم كانوا مؤمنين، وأن هذه السكينة زادتهم إيماناً إلى إيمانهم، ولا شك أنها زيادة محسوسة بحيث زادت أعمالهم، وكثرت حسناتهم، وقلت سيئاتهم، فيكون ذلك من أسباب زيادة الحق والإيمان.
هذه بعض الأدلة على زيادة الإيمان، والشارح يقول: إن الزيادة هي زيادة الأعمال، يعني: أن الذي عمل بالشريعة أول ما نزلت عمل بأعمال قليلة، ولما زادت الشرائع زادت أعماله، ومعلوم أن الذين أسلموا بمكة في أول الإسلام ما فرضت عليهم الطهارة ولا الصلاة ولا الصوم ولا الصدقة ولا الجهاد، وما فرض عليهم من أركان الإسلام إلا الشهادتان، حيث بقوا عشر سنين قبل أن تفرض عليهم الصلاة، أما الذين أسلموا في سنة ثمان من الهجرة فقد أسلموا بعد أن تمت شرائع الإسلام، فصاروا يصلون ويزكون ويصومون ويجاهدون ويحجون ويعلمون ويعملون ويتعلمون القرآن ويقرءونه، فأعمالهم أكثر من أعمال الأولين الذين اقتصروا على التوحيد وعلى الإخلاص، فهذا دليل على تفاوت الإيمان بكثرة الأعمال، وهذه وجهة لبعض العلماء في زيادة الإيمان: أن المراد بها: زيادة الأعمال وكثرتها.
ومثل الشارح بمن بلغته الشريعة فآمن بها، ولم تبلغه تفاصيلها كالنجاشي ملك الحبشة، فإنه لما أسلم لم تبلغه تفاصيل الشريعة من أركان الإسلام والمحرمات في الدين، وكذلك ما سمع من القرآن إلا بعضه، ولم يعمل به كله، فإيمانه بحسب ما وصل إليه من الأركان ومن الأحكام، فهو أقل نسبياً من الذين حضروا التنزيل فآمنوا به مفصلاً، وعملوا به عملاً كاملاً، فهؤلاء أكثر عملاً، فهم أقوى إيماناً وأزيد، هكذا فسر بعض العلماء الزيادة بكثرة الأعمال.