قال الشارح رحمه الله: [والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب.
وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها، ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار.
وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان، التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته -وهو في تلك الحال- أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت! وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان، حيث نزعت موقها وسقت الكلب من الركية؛ فغفر لها.
وهكذا العقل أيضاً، فإنه يقبل التفاضل، وأهله في أصله سواء، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين، وبعضهم أعقل من بعض.
وكذلك الإيجاب والتحريم، فيكون إيجاب دون إيجاب، وتحريم دون تحريم، هذا هو الصحيح، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب] .
عرفنا أن كلمة (لا إله إلا الله) لابد أن يعمل بها، وأن الذين يقولونها ولا يعملون بها هم المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار؛ وذلك لأنهم أخلوا بشرطها؛ وهو: العمل والتطبيق، أو أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فلم تنفعهم هذه الكلمة إلا نفعاً دنيوياً، وذلك بأن حقنوا بها دماءهم، وأحرزوا بها أموالهم، فلما أظهروا أمام الناس أنهم مؤمنون -والله مطلع على ما في قلوبهم- لم تنفعهم هذه الكلمة التي ما صدرت عن اعتقاد، ولم يعملوا بها حق العمل.
إذاً: أهل الإيمان حقاً هم الذين يقولونها ويعملون بمقتضاها، وتصدر عن قلوبهم، وتطمئن قلوبهم بمدلولها، ويعرفون معناها.
وهم -بلا شك- متفاوتون في هذه القوة، وذلك بحسب كثرة الأدلة، وبحسب كثرة الأعمال، فكلما كثرت الأعمال الصالحة قوي الإيمان في القلب؛ ولأجل هذا نقول: إن الأعمال من مسمى الإيمان، وإنها تزيد الإيمان، وإن السيئات تنقص الإيمان، وكذلك ترك الصالحات ينقص الإيمان.
وإذا كان الإيمان يتفاوت، فإن قدره في القلب يتفاوت، والإيمان الذي على الأبدان يتفاوت، وقد مثل الشارح الإيمان الذي في القلب بالبصر الذي في العين، وقال: الناس يتفاوتون في الإبصار، فبالرغم من أنهم كلهم مبصرون؛ إلا أن بعضهم أقوى بصراً من بعض، فبعضهم يرى الشخص من بعيد -من مسيرة ثلاثة أو أربعه أميال- فيعرف شخصه، وبعضهم لا يعرفه ولو كان بينه وبينه خمسة أمتار أو نحوها، وبعضهم يقرأ الخط الدقيق بدون نظارة ونحوها، وبعضهم لا يقرؤه إلا إذا كان كبيراً، كما هو مشاهد.
واختلاف الناس في البصر يماثله اختلافهم في العقل، إذ يتفاوت الناس فيه، فمنهم من يكون فطناً ذكياً، ومنهم من يكون في غاية البلادة والغباوة، ومنهم من يكون بين ذلك.
وإذا كان التفاوت حاصلاً في هذين الأمرين، وهما من خلق الله تعالى وتدبيره، فنقول: كذلك الإيمان الذي في القلب يقوى في حق أهل الإيمان القوي الذين تكاثرت الأدلة عليهم فرسخ بها الإيمان في قلوبهم، وآخرون ضعف الإيمان في قلوبهم بقلة الأدلة أو بعدم تأملها، لأجل ذلك فإن البعض من أهل الإيمان إذا جاءته شبهة أو دعاه داع إلى الضلال أو إلى الردة ترك الإسلام، وترك الصلوات، وترك الأعمال، وما ذاك إلا لضعف الإيمان الذي في قلبه؛ وضعف الأدلة التي بنى عليها هذا الإيمان، وبعضهم يكون الإيمان في قلبه أرسى من الجبال، لا تزعزعه الشبهات ولا التشكيكات، ولا الإيرادات التي يوردها عليه دعاة الضلال، فلو أتوه بكل دليل عندهم، ولو ألقوا عليه كل شبهة؛ فإن إيمان قلبه يحرق تلك الشبهات ويزيلها؛ وذلك لأن قلبه مستنير، وقد مثل الشارح الإيمان بالنور، فإن القلب إذا كان فيه إيمان فإن فيه نوراً، وأنتم تعرفون تفاوت الأنوار، فمنهم من يكون النور الذي في قلبه كنور الشمس الذي يضيء على الدنيا، ومنهم من يكون كنور القمر، ومنهم من يكون كالسرج القوية، ومنهم من يكون كالشمعة الضعيفة أو ما أشبهها، وقوة النور تتوقف على المواد التي تمد ذلك النور، فكذلك النور في القلب ما الذي يمده؟ لا شك أن الذي يمده الأدلة من آيات الله تعالى، ومن مخلوقاته، ومن أحكامه وشرائعه، ومن المعجزات التي جرت على أيدي رسله وعلى أيدي أوليائه، تواردت على ذلك القلب، فتمكنت ورسخت فيه، فصار لا حيلة لأحد في تضعيفها ولا إزالتها.
فإذا رأيت إنساناً إيمانه ضعيف فإنك تجده قليل الأعمال، كثيراً ما يترك الصلوات أو يتكاسل عنها، ويرتكب بعض المنهيات ونحو ذلك، كيف السبيل إلى إنقاذه؟ السبيل إلى ذلك أن تحثه على ما يقوي إيمانه، بأن تكرر عليه الأدلة والآيات والبراهين التي تصل إلى قلبه، وتكرر عليه ما يبطل الشبهات التي امتلأ بها قلبه، فإن لم تقدر على ذلك فأرشده إلى ما يقرؤه أو ما يسمعه من النشرات، أو من الكتب والمؤلفات التي تحتوي على براهين وآيات ودلالات واضحات، وبذلك يقوى الإيمان في قلبه، وتزول تلك الأسباب التي تضعفه، فعند ذلك ينبعث بدنه وأعضاؤه وجوارحه بالأعمال الصالحات، فلا ينظر إلا نظر إيمان، ولا يسمع إلا سماع إيمان، ولا يتكلم إلا كلام إيمان، ولا يهم بقلبه إلا بما هو إيمان، ولا يمشي إلا إلى إيمان، ولا يعمل بيديه إلا ما هو إيمان، ولا ينفق ماله إلا فيما هو إيمان وهكذا.
فهذا ونحوه من ثمرات الإيمان الذي هو أصل في القلب، ثم بعد ذلك ينبعث على الجوارح.