إذا لم تنفع هذه الأسباب، وبقي على العبد سيئات لم تكفر بهذه المكفرات كلها، فحينئذٍ لابد أن يدخل الكير حتى ينقى، فإن النار بمنزلة كير الحداد، الحداد إذا كان عنده حديدة فيها صدى، أو فيها مزيج تراب ونحوه ماذا يفعل بها؟ يدخلها النار حتى تذوب، فإذا ذابت تلك الحديدة طفا منها الحديد الخالص، أما التراب والصدى والخبث فإنه يرسب، ويتبين ما هو صالح وما ليس بصالح، قال الله تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد:17] يوقدون النار على الذهب حتى يذوب، ويخلص ما هو ذهب وما هو نحاس، يتميز هذا من هذا في كير الحداد، ويوقد على هذا الحديد حتى يتميز ما هو حديد خالص وما ليس بخالص من التراب ونحوه، فكذلك النار التي أعدها الله للعذاب، يدخلها هذا الذي بقيت عليه سيئات وبقيت عليه ذنوب لم تكفرها هذه المكفرات، فإذا هذب ونقي، ولم يبق فيه إلا ما هو خالص، عند ذلك أذن الله بإخراجه، بعدما يمحص؛ لأن دار النعيم وهي الجنة دار طيبة، لا يدخلها إلا الطيب، لا يجاور الله فيها إلا من هو طيب، فالذي عنده شيء من الخبث لابد أن ينقى.
وعلى كل حال فعقيدة أهل السنة أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد وأهل الإيمان، وأما من ليسوا بمؤمنين فإنهم يلحقون بالكفار، ومعلوم أن الإيمان هو تحقيق الإيمان بالأركان الستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
الإيمان بهذه الأركان الستة هو الذي يحمل على الأعمال الصالحة، ولكن هذا الإيمان قد يكون ضعيفاً فيقع معه شيء من المعاصي والمخالفات، ويقع صاحبه في شيء من التقصير وترك بعض الطاعات، فتتراكم عليه الذنوب، فيحتاج إلى ما يمحوها وما يكفرها، وقد يكون ضعفه كثيراً فيكثر تناوله للسيئات، وقد يكون ضعف الإيمان قليلاً فلا تكثر منه السيئات، فيمحوها ربه بالمكفرات، وقد يكون الإيمان قوياً راسخاً أرسخ من الجبال، فلا يقدم العبد على شيء من السيئات ولا من المخالفات، ولا يترك شيئاً من الواجبات، فهذا هو السبب.
أما من فقد الإيمان بهذه الأمور، وضعف إيمانه بالله، أو لم يؤمن بالله إلهاً ورباً، وإنما أنكر أن يكون الله إلهه وربه، أو عبد إلهاً غيره أو نحو ذلك، أو لم يؤمن باليوم الآخر، ولم يصدق بالبعث، بل أنكر الدار الآخرة، وأنكر الجزاء والجنة والنار، وجعل الدنيا هي الدار التي ليس بعدها دار، وما أشبه ذلك، وكذلك إذا أنكر الشرع الشريف، وأنكر كتاب الله أو كتبه المنزلة، أو أنكر رسالة الرسل وما جاءوا به، أو لم يؤمن برسالتهم وبما جاءوا به، أو رد شيئاً من شرعهم ولم يقبله؛ فمثل هذا لا يكون مؤمناً؛ وذلك لأنه لم يثبت الإيمان في قلبه، فلا تنفع طاعات فعلها، ولا قربات تقرب بها، حيث إنها لم تكن على أصل، ولم تكن على أساس.
إذاً: فهذه المكفرات التي هي أحد عشر أو اثنا عشر في حق أهل الإيمان وأهل العقيدة وأهل التوحيد، الذين قد يضعف توحيدهم بسبب من الأسباب، فأما من ليسوا من أهل العقيدة ولا من أهل الإيمان، بل من أهل الكفر والنفاق والشرك والمخالفات والإنكار للدار الآخرة، أو الإنكار للجزاء والحساب، أو الإنكار للشرائع أو ما أشبه ذلك، فهؤلاء كفار لا تنفعهم أعمالهم، بل أعمالهم يحبطها الله كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، ولو أكثروا من الصدقات، ولو أكثروا من الحسنات وما أشبه ذلك، ما دام أنها ليست على أساس وأصل أصيل، وهو العقيدة الراسخة التي هي أركان الإيمان كما ذكرنا.