مر بنا أن التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد، وأن كلاً من النوعين قد بينه الله تعالى في كتابه، وبينته الرسل عليهم السلام حتى قامت الحجة وانقطعت المعذرة، وأن كلاً من النوعين ضروري وشرط في قبول العبادات، فمن لم يحقق هذين النوعين من التوحيد لم تقبل منه عباداته، وهذا هو السبب في أهمية هذا التوحيد الذي هو توحيد العقيدة وتوحيد العمل، ونقرأ الآن بقية الكلام على هذه الأنواع: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] توحيد {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] توحيد {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] توحيد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] توحيد {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الذين فارقوا التوحيد.
وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد والرد على جميع طوائف الضلال، فتضمنت أجلّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، من أجلّ شاهد بأجلّ مشهود به] .
يقول: إن القرآن كله يدور حول تقرير التوحيد، كما تقدم أن الأوامر والنواهي في الأحكام تكميل للتوحيد أو أمر بالتوحيد، والقصص والوقائع فيها بيان حال أهل التوحيد ومن خالف التوحيد، فالله يذكر قصة المكذبين بالتوحيد وكيف أهلكهم، وقصة الرسل ومن نجا معهم؛ لأنهم من أهل التوحيد، وكذلك ذكر الثواب لأهل التوحيد، والعقاب لمن خالف التوحيد، فيقول: إن سورة الفاتحة تتضمن التوحيد، ففي كل آية منها توحيد.
فالآية الأولى فيها الحمد، أي: أنه المستحق للحمد وحده، فهو توحيد، لأنه تخصيص للحمد بمن يستحقه.
والآية الثانية فيها وصف الله تعالى بالرحمة وهذا توحيد الصفات، يعني أن من صفاته أنه المتوحد بصفة الرحمة.
والآية الثالثة فيها الملك، أي هو وحده المالك فلا يملك أحد ملكه.
والآية الرابعة فيها العبادة، أي: لا نعبد غيرك، فأنت المعبود وحدك وأنت المستعان به وحدك، وهذه هي حقيقة التوحيد، فـ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) توحيد العبادة (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) توحيد العمل، أو توحيد المعرفة.
وكذلك سؤال الهداية، والهداية هي الدلالة على الصراط الذي هو صراط أهل التوحيد، والذين أنعم الله عليهم هم أهل التوحيد، والدعاء بأن يجنب الله السالك طريق الغاوين الذين خالفوا التوحيد، وهم أهل الغضب وأهل الضلال.
فتضمنت سورة الفاتحة من أولها إلى آخرها تقرير التوحيد.
وكذلك الآية التي في سورة آل عمران فإن الله ذكر أنه شهد بهذه الشهادة، يقول: تضمنت هذه الآية أجل شهادة، من أجل شاهد، بأجل مشهود به، فالشاهد هو الله والملائكة والعلماء {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18] فجعل أهل الشهادة هم هؤلاء الثلاثة، شهد لنفسه، وشهدت له ملائكته، وشهد له أهل العلم به من خلقه.
وأولو العلم: هم الذين آتاهم الله معرفة بتوحيده، وهم الذين يخصونه بالتوحيد، أما المشركون فإنهم جهلة، وكل من أعطاه الله علماً بهذا النوع فهو من أهل العلم.
فالشاهد هو الله وملائكته وأهل العلم من خلقه، والشهادة معناها الإقرار والاعتراف بالمشهود به، والمشهود به هو الإلهية، ولهذا كرر: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) مرتين، وأتبعها بأن الإسلام هو دين الحق، فهذه الآية في تقرير التوحيد.
وقد ذكرنا أن ابن القيم رحمه الله تكلم على هذه الآية في آخر مدارج السالكين، وأن الشارح لخص كلامه ونقل منه ما يدل على أن الآية تضمنت معاني جديدة مفيدة إذا تأملها المسلم عرف كيفية التوحيد، وكيف شهد الله به لنفسه، وشهدت له به ملائكته، وشهد له به العلماء.