قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] احتج الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة.
ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي، قال الحاكم: حدثنا الأصم: حدثنا الربيع بن سليمان قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ؟ فقال الشافعي: لما أن حُجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا.
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] وبقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] فالآيتان دليل عليهم.
أما الآية الأولى فالاستدلال منها على ثبوت رؤيته من وجوه: أحدها: أنه لا يُظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلمِ الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه، بل هو عندهم من أعظم المحال.
الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] .
الثالث: أنه تعالى قال: (لن تراني) ، ولم يقل: إني لا أُرى.
أو: لا تجوز رؤيتي.
أو: لست بمرئي.
والفرق بين الجوابين ظاهر، ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجلٌ طعاماً فقال: أطعمنيه فالجواب الصحيح: إنه لا يؤكل.
أما إذا كان طعاماً صح أن يقال: إنك لن تأكله.
وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيتَه في هذه الدار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى، يوضحه.
الوجه الرابع: وهو قوله تعالى: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، فأعمله أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خُلِق من ضعف.
الخامس: أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقراً، وذلك ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقال: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، والكل عندهم سواء.
السادس: قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف:143] ، فإذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته؟! ولكن الله أعْلَمَ موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار فالبشر أضعف.
السابع: أن الله كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطِبَه كلامَه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه، وقد جمعوا بينهما.
وأما دعواهم تأبيد النفي بـ (لن) وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة ففاسد؛ فإنها لو قُيِّدت بالتأبيد لا يدل على دوام النفي في الآخرة فكيف إذا أطلقت؟! قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة:95] مع قوله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] ، ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها، وقد جاء ذلك، قال تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80] .
فثبت أن (لن) لا تقتضى المنفي المؤبد.
قال الشيخ جمال الدين ابن مالك رحمه الله: ومن رأى النفي بـ (لن) مؤبداً فقوله ارددْ وسواه فاعضُدا] .