والآية الثانية في سورة (ق) قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] ، فالله تعالى أخبر بأن لهم فيها ما يشاءون، فكل شيء يشاءونه وتتمناه نفوسهم أو يخطر على بالهم يُحضر إليهم.
ثم يقول بعد ذلك: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ، هذا المزيد زائدٌ عن النعيم الذين بين أيديهم، ولا بد أن يكون هذا الزائد له خصوصية، لذلك فُسِّر المزيد بأنه النظر إلى وجه ربهم، يعني: نعمة زائدة على ما يستحقونه هي النظر إلى ربهم أثابهم الله وأعطاهم ذلك.
هكذا فُسرت من قِبل السلف أن المزيد هو النظر إلى ربهم.
الآية الثالثة في سورة يونس قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:25-26] ، ودار السلام هي: الجنة، يدعو إليها ويدعو إلى العمل الذي يدخلها، ثم إذا دخلوها فماذا يستحقون؟ قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:25-26] والحسنى هي الجنة التي فيها جميع أنواع الحُسن.
وقوله: (وزيادة) : لا شك أن هذه الزيادة شيء زائد على الحسنى التي هي الجنة، لذلك فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها نظرهم إلى وجه ربهم في الحديث الذي رواه مسلم عن صهيب، ورواه أيضاً غيره، وكذلك فسرها أبو بكر وغيره من الصحابة، واستدلوا بأنه قال بعدها: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:26] ، يعني أنهم بنظرهم إلى الله لا يلحقهم ملل ولا يلحق وجوههم كدر ولا يلحقها ذلة ولا مهانة ولا غير ذلك.
وعادة أنك لو نظرتَ -مثلاً- إلى الشمس في شدة وهجها فإن وجهك قد يعبس أو قد يتغير، وعينك قد تكل من قوة شعاعها وقوة نورها، وكذلك بعض الأنوار المشعة شديدة الإضاءة كالبرق ونحوه كما في قوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43] .
والله تعالى قد أخبر بأنه نور فقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] .
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن حجابه النور.
فهذا النظر إليه مع كثرة تلك الأنوار المشعة لا يرهق وجوه المؤمنين منه ذلة، بل تزداد وجوههم إشراقاً وتزداد بهجةً ونضارةً وسروراً، وما ذاك إلا أنهم يعدون ذلك غاية النعيم، ولذلك قال بعض العابدين: ولو أني استطعتُ غضضتُ طرفي فلا أنظر به حتى أراكا فمن شدة الشوق إلى الله تعالى يقول: لو استطعت لما نظرتُ إلى أي مخلوق حتى أنظر إليك -يا ربي- شوقاً إليك وارتياحاً إلى رؤيتي لربي.
هكذا حالة العارفين المشتاقين إلى ربهم، أما الذين أنكروا هذه الرؤية فإنهم محرومون من هذا النعيم كله، محرومون من هذه الزيادة، أو قد اعتقدوا حرمان أنفسهم والعياد بالله.
ومسألة الرؤية مسالةٌ كبيرة شريفة قد اهتم بها أهل السنة وقدموا الكلام فيها من وقت الإمام الشافعي وهم يجادلون فيها من أنكرها، ولا يزالون على ذلك.
وقد كتب فيها ابن القيم رحمه الله في كتابه المسمى (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) الذي يتعلق بصفة الجنة، فإنه في باب من أبوابه سرد آيات الرؤية، فجعل باباً خاصاً للرؤية وسرد فيه الآيات، ثم سرد فيه الأحاديث التي رُويت في ذلك، والتي يمكن الاستدلال بها، وإذا كان فيها ضعف فإن بعضها يتقوى ببعض، والأكثر قوي من حيث السند، وأعرضَ عن الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، فمن قرأه عرف بذلك كثرة ما ورد فيها من الأدلة، وهكذا أيضاً أتبعه بالنقولات، ثم رد على من أنكر ذلك من المعتزلة وبيَّن ما أجابوا به وناقشهم فيما استدلوا به.
وتبعه على ذلك حافظ بن أحمد الحكمي في كتابه الذي سماه (معارج القبول في شرح سلم الوصول) ، و (سلم الوصول) هذا منظومة نَظَمها من أول ما نظم وشرحها في هذا الكتاب الذي يقع في مجلدين، وأفاض في الشرح وتوسع، ولما أتى على الأدلة التي تدل على صفة الرؤية توسع أيضاً فيها.
ونحيل إلى هذين الشرحين -لمن أراد أن يتوسع- كتاب ابن القيم وكتاب الحكمي، وغيرهما أيضاً من الكتب الكثيرة التي اعتنت بمسائل التوحيد والعقيدة ومن جملتها مسألة الرؤية ومناقشة ما فيها من الخلافات وبيان الحق لأهله.