قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [والناس من أهل العلم فيهم على ثلاثة أحزاب: حزب يكذبون بوجود رجال الغيب، ولكن قد عاينهم الناس، وثبت عمن عاينهم أو حدثه الثقات بما رأوه، وهؤلاء إذا رأوهم وتيقنوا وجودهم خضعوا لهم.
وحزب عرفوهم، ورجعوا إلى القدر، واعتقدوا أن ثَّم في الباطن طريقاً إلى الله غير طريقة الأنبياء! وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا ولياً خارجاً عن دائرة الرسول، فقالوا: يكون الرسول هو ممداً للطائفتين.
فهؤلاء معظمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه.
والحق أن هؤلاء من أتباع الشياطين، وأن رجال الغيب هم الجن، ويسمون رجالاً، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] ، وإلا فالإنس يؤنسون، أي: يشهدون ويرون، وإنما يحتجب الإنسي أحياناً، لا يكون دائماً محتجباً عن أبصار الإنس، ومن ظنهم أنهم من الإنس فمن غلطه وجهله.
وسبب الضلال فيهم، وافتراق هذه الأحزاب الثلاثة: عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، ويقول بعض الناس: الفقراء يُسلّم إليهم حالهم! وهذا كلام باطل، بل الواجب عرض أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية، فما وافقها قُبِل، وما خالفها رُد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، وفي رواية: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، فلا طريقة إلا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا يصل أحد من الخلق بعده إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعته باطناً وظاهراً، ومن لم يكن له مصدقاً فيما أخبر ملتزماً لطاعته فيما أمر في الأمور الباطنة التي في القلوب والأعمال الظاهرة التي على الأبدان لم يكن مؤمناً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله تعالى، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء، وأنفق من الغيب، وأخرج الذهب من الخشب، ولو حصل له من الخوارق ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه الفعل المأمور وعزل المحظور إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقربة إلى سخطه وعذابه، لكن من ليس يكلف من الأطفال والمجانين قد رفع عنهم القلم، فلا يعاقبون، وليس لهم من الإيمان بالله والإقرار باطناً وظاهراً ما يكونون به من أولياء الله المقربين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين، لكن يدخلون في الإسلام تبعاً لآبائهم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] ، فمن اعتقد في بعض البله أو المولعين -مع تركه لمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله- أنه من أولياء الله، ويفضله على متبعي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ضال مبتدع، مخطئ في اعتقاده، فإن ذاك الأبله إما أن يكون شيطاناً زنديقاً، أو زوكارياً متحيلاً، أو مجنوناً معذوراً، فكيف يفضل على من هو من أولياء الله المتبعين لرسوله أو يساوى به؟! ولا يقال: يمكن أن يكون هذا متبعاً في الباطن، وإن كان تاركاً للاتباع في الظاهر، فإن هذا خطأ أيضاً، بل الواجب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً.
قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: قلت للشافعي: (إن صاحبنا الليث كان يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة، فقال الشافعي رحمه الله: قصّر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، ويطير في الهواء، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب.
وأما ما يقوله بعض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اطلعت على أهل الجنة فرأيت أكثر أهلها البله) فهذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي نسبته إليه؛ فإن الجنة إنما خلقت لأولي الألباب الذين أرشدتهم عقولهم وألبابهم إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وقد ذكر الله أهل الجنة بأوصافهم في كتابه، فلم يذكر في أوصافهم البَلَه الذي هو ضعف العقل، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء) ، ولم يقل: البله] .
هذا الكلام حول هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أهل الغوث، وهم ممن ينصبون أنفسهم لهذا الأمر، ولا شك أن الغوث إنما هو من الله تعالى، فمعلوم أن الغوث الذي هو إزالة الشدة وتفريج الكربات من الله، وأما الإنسان فلا يقدر أن يزيل شدة، ولا أن يفرج كرباً، ولا أن يسد حاجة إنسان بدون أمر وإعانة من الله تعالى، فذكر أن هناك من يقول: إن هؤلاء الذين وصلوا إلى هذه الحالة تفوقوا على الأنبياء، وأن الله يمدهم بعطاء من عنده، ويفتح عليهم، وينزل عليهم ملائكته أو ينزل عليهم وحيه بواسطة أو بغير واسطة، وأنهم قد استغنوا عن الوحي وعن شرائع الأنبياء، وهذه مقالة بعض العوام أو من يقلدهم.
والجواب عليها: أن هذا كفر، ولا يجوز لأحد أن يستغني عن الشريعة الإسلامية مهما كانت حالته، بل الشريعة المحمدية هي خاتمة الشرائع، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، ولا يسع أحد الخروج عن شريعته، ومن نواقض الإسلام أن يعتقد أحد أن إنساناً يسعه الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى! ثم هناك طائفة اعتقدت أن هؤلاء الذين يسمون أهل الغوث أو نحوهم كذبة، وأنه ليس هناك ما يسمى بغوث أو ما يسمى بفتح أو إلهام أو نحو ذلك، وقد تقدم في كرامات الأولياء: أن الله قد يفتح على بعض أوليائه وينطقهم بكلمات هي حكمة، أو يكون فيها شيء مما يسمى بخرق العادة، ويكون ذلك كرامة لهم، فلا يجوز إنكار ذلك.