ذكر العلماء أن الكرامات للتابعين أكثر منها في الصحابة، وذكروا أمثلة كثيرة وجدت في عهد كثير من التابعين ومن بعدهم، ولا شك أنها دالة على صلاحهم أو حاجتهم، ومع ذلك فالكرامة لا تدل على أفضيلة ذلك الشخص الذي جرت على يديه، فإذا قلنا -مثلاً-: لماذا لم تجر على يدي أبي بكر مثل ما جرى على يد عمر وعثمان وعلي ونحوهم؟ نقول: ليست الكرامات دليلاً على الأفضلية، وإنما هي إما لحاجة الذي جرت على يديه، وإما لمناسبة، وإما لقطع حجة خصم أو نحو ذلك؛ ولأجل ذلك لا نقول: إن الصحابة مفضولون حيث إن الكرامات فيهم قليلة، وهي في التابعين كثيرة.
وعلى كل حال فالكرامات هي: الأمور التي تجري على أيدي بعض الأولياء من عباد الله الصالحين المؤمنين خارقة للعادة كالأمثلة التي ذكرنا قبل قليل، وهذه الكرامات لا شك أنها دليل على صلاحهم وحسن استقامتهم وديانتهم، ومع ذلك يستدل بها كثير من العلماء -كـ ابن كثير رحمه الله في التاريخ- على أنها معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن هؤلاء ما حصلت لهم هذه الكرامات إلا باتباعهم لهذا النبي الكريم، فلما كانوا متبعين له سائرين على نهجه وطريقته حصلت لهم هذه الكرامات.
ذكروا عن أبي مسلم الخولاني أنه غضب عليه الأسود العنسي، فأوقدوا له ناراً وألقوه فيها، وصارت عليه برداً وسلاماً، وخرج ولم يحترق، فلما وفد إلى عمر رضي الله عنه قال: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله، وأمر الصحابة أن يسلموا عليه كلهم، وأن يهنئوه.
يعني: الصحابة الذين كانوا عند عمر.
وكان العلاء بن الحضرمي قائداً لجيش في ساحل هذا الخليج الفارسي أو العربي، فحال بينهم وبين عدوهم البحر، فأرادوا أن يتبعوهم فلم يجدوا بُدَّاً من أن يخوضوا بخيولهم، فنزلوا في البحر وهم على خيولهم، ولم يفقدوا متاعاً أبداً، ولم يفقدوا شيئاً، وجعلت الخيل تسبح على البحر كما تسبح السفن، فلما رآهم الفرس قالوا: ما هؤلاء إلى شياطين! فهربوا، وأتى المسلمون إلى مكان العدو وانتصروا عليهم، ولم يفقد أحد منهم شيئاً من متاعه، وعدوا ذلك من كرامات ابن الحضرمي رحمه الله ورضي عنه.
وهذه الكرامات من الله تعالى، وهو الموصوف بالعلم، يعلم حال عبده هذا، ويعلم حاجته، ويعلم إيمانه وطمأنينة قلبه، وهي من قدرة الله، فالله تعالى على كل شيء قدير، فهو الذي قدر هذا الأمر لهذا العبد، وأقدره على ذلك، وأجرى على يديه هذه الكرامة، وكذلك الله تعالى موصوف بالغنى، فهو الغني عما سواه، وهذه الكرامات دليل على أن الرب سبحانه هو الغني المغني الذي يعطي من يشاء ما يشاء بدون حاجة إلى أحد، فهذه الصفات التي هي العلم، والقدرة، والغنى، المتصف بها هو الله وحده، والكرامات لا تحصل إلا من الله الذي هو عليم بهذا العبد، وقادر على أن يعطيه، وغني لا تنقص خزائنه، ولا تحصل لأي بشر كما سمعنا في الآية التي استشهد بها الشارح، وهي قول الله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [الأنعام:50] يعني: الخزائن عند الله تعالى وهو الغني المغني، {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50] علم الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50] يعني: لا أقول لكم إني من الملائكة، بل إنما أنا بشر ضعيف لا قدرة لي إلا على ما أقدرني الله تعالى عليه.
وهذه الأمور حكاها الله تعالى عن نوح، وأمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم.
فكلما كان العبد أتقى لله كلما كان أقوم سبيلاً وأعرف بالله سبحانه، فإن ربه تعالى يجري على يديه عند حاجته ما يكون مقوياً لإيمانه.
وعرفنا أنه ليس كل من جرت على يديه هذه الخوارق أو هذه الكرامات يتفوق على من لم تجر عليه، فلا نقول مثلاً: إن ذلك العابد الذي يقال له: سحنون، ويحكون عنه كرامات، أشرف من الإمام الشافعي الذي لم تجر على يديه هذه الكرامات ولا بعضها، وكذلك بهلول ورابعة العدوية، فيحكون في تراجمهم أشياء كثيرة من الكرامات ونحوها، ولا توجد تلك الكرامات في تراجم الأئمة: مالك وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وشعبة بن الحجاج والليث بن سعد والإمام أحمد والإمام الشافعي وإسحاق بن راهوية ويحيى بن معين وعلي بن المديني ويحيى بن سعيد القطان وأشباههم من العلماء، لماذا لم تجر على أيديهم هذه الكرامات وقد جرت على أيدي أولئك العباد؟ نقول: لأن هؤلاء اكتفوا بما فتح الله عليهم من العلوم التي فيها العلم بالله وبشرع الله وبأحكامه وبأمره وبنهيه، فكانت مقوية لإيمانهم، فلا يحتاجون إلى أن يجري على يديهم كرامة، بخلاف سحنون وبهلول ورابعة وبشر بن الحارث والجنيد ومعروف وأشباههم فإن هؤلاء قد يكون في إيمانهم شيء من الرقة والضعف، فيجري الله على أيديهم أشياء من الكرامات؛ حتى يقوى إيمانهم، وحتى يثبتوا ويرسخوا، هكذا قال بعض العلماء، وإلا فلا مساواة بين العلماء الذين لهم مكانتهم في العلم ونحوه وبين العباد.