قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم.
فالمعجزة في اللغة: تعم كل خارق للعادة، وكذلك الكرامة في عرف أئمة أهل العلم المتقنين، ولكن كثيراً من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما، فيجعلون المعجزة للنبي، والكرامة للولي، وجماعها: الأمر الخارق للعادة.
فصفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، وهذه الثلاثة لا تصلح على الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50] ، وكذلك قال نوح عليه الصلاة والسلام، فهذا أول أولي العزم، وأول رسول بعثه الله إلى الأرض، وهذا خاتم الرسل وخاتم أولي العزم، وكلاهما تبرءا من ذلك؛ وهذا لأنهم يطالبونهم تارة بعلم الغيب كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف:188] ، وتارة بالتأثير كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء:90] ، وتارة يعيبون عليهم الحاجة البشرية كقوله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] ، فأمر الرسول أن يخبرهم بأنه لا يملك ذلك، وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله، فيعلم ما علمه الله إياه، ويستغني عما أغناه عنه، ويقدر على ما أقدره عليه من الأمور المخالفة للعادة المطردة أو لعادة أغلب الناس، فجميع المعجزات والكرامات ما تخرج عن هذه الأنواع.
ثم الخارق إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين كان من الأعمال الصالحة المأمور بها ديناً وشرعاً، إما واجب أو مستحب، وإن حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكراً، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه كان سبباً للعذاب أو البغض، كالذي أوتي الآيات فانسلخ منها بلعام بن باعورا لاجتهاد أو تقليد، أو نقص عقل أو علم، أو غلبة حال، أو عجز أو ضرورة، فالخارق ثلاثة أنواع: محمود في الدين، ومذموم، ومباح؛ فإن كان المباح الذي فيه منفعة كان نعمة، وإلا فهو كسائر المباحات التي لا منفعة فيها.
قال أبو علي الجوزجاني: كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة.
قال الشيخ السهروردي في عوارفه: وهذا أصل كبير في الباب، فإن كثيراً من المجتهدين المتعبدين سمعوا بالسلف الصالحين المتقدمين، وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات، فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئاً منه، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهماً لنفسه في صحة عمله، حيث لم يحصل له خارق، ولو علموا بسر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة يقيناً؛ فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج عن دواعي الهوى، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة، ولا ريب أن للقلوب من التأثير أعظم مما للأبدان، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحاً، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسداً، فالأحوال يكون تأثيرها محبوباً لله تعالى تارة، ومكروهاً لله أخرى، وقد تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن، وهؤلاء يشهدون بواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني، ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم أنه كرامة من الله له، ولا يعلمون أنه في الحقيقة إنما الكرامة لزوم الاستقامة، وأن الله تعالى لم يكرم عبداً بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه، وهو طاعته وطاعة رسوله، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] ، وأما ما يبتلي الله به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها أو بالضراء، فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه، بل قد سعد بها قوم إذا أطاعوه، وشقي بها قوم إذا عصوه، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:15-17]] .
سمعنا أن الكرامة هي أمر خارق للعادة، مستغرب عجيب صدوره، وأنه إذا جرى على أيدي الأنبياء سمي معجزة، وقد ذكر العلماء معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم: منها: أن الجذع حنّ له لما ترك الخطبة عليه، وهو جماد.
ومنها: أنه الحصيات سبحن بيده وهن جماد.
ومنها: أن حجراً كان يسلم عليه إذا مر به، وهو حجر يعرفه.
ومنها: أن الماء القليل يزيد إذا غمس فيه يده حتى يشرب منه الخلق الكثير، ويملئوا منه قربهم، ويتوضئوا منه.
ومنها: تكثير الطعام خبزاً أو لحماً، كما ورد ذلك في أدلة كثيرة.
فهذه معجزات، لا يقدر البشر على مثلها، ويعلمون أن الله أجراها على يديه، ليعلم أنه رسول من الله صادق.