بعد أن انتهوا من الصلاة حمل عمر رضي الله عنه وجرحه يسيل، وكأن الناس لم يصابوا بمصيبة قبل هذه المصيبة؛ وذلك لأنها مصيبة عظيمة، وفاجعة كبيرة، قتل أمير المؤمنين الذي هو المثل الأعلى في العدل، فلما حملوه قال بعضهم: إنه لا بأس عليه، وإنه سوف يعيش، وآخرون يقولون: نخاف عليه من هذه الطعنات المسمومة، فلما سقوه نبيذاً -والنبيذ هو عصير التمر- خرج من الجرح، ولكنهم لم يتفطنوا له واعتقدوه دماً، فلما سقوه لبناً خرج اللبن من الجرح أبيض، فعلموا حينئذٍ أنه ميت، فقالوا له: استخلف، أي: اختر من يكون بعدك خليفة، فقد نزل بك أمر الله، وعرفوا بأنه ميت، فأشاروا عليه أن يختار للمسلمين خليفة بعده، ولكنه رضي الله عنه قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، يعني: أبا بكر، وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعين خليفة بعينه، ولكنه جعل الأمر شورى في ستة من الصحابة، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لعشرة من الصحابة بالجنة، ومنهم أبو عبيدة، ولكنه مات في خلافة عمر، ومنهم سعيد بن زيد، ولكنه قريب لـ عمر، فهو ابن ابن عمه، فلم يجعله من أهل الشورى لقرابته؛ مخافة المحاباة، وبقي ستة، وهم عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة وسعد، فهؤلاء هم الستة الذين جعلهم مستشارين، وجعل الخلافة شورى فيهم، وهم الذين يسمون أهل الشورى في ذلك الوقت.
ولما عرف عمر رضي الله عنه أنه ميت أخذ يوصي الخليفة من بعده بهذه الوصايا: يوصيه بالمهاجرين، ويوصيه بالأنصار، ويوصيه بأهل القرى والمدن، ويوصيه بالأعراب، ويذكر ما لكلٍ منهم من المآثر، وما لكل منهم من الجهاد، ويوصيه بالسير الحسن، وعادة الناصحين المخلصين الوصية لمن بعدهم بالخير، وصية دينية، يقصد منها السير على نهج قويم، حتى تأمن البلاد في عهده، وحتى لا يخاف من جوره، وحتى لا يكون عليه اختلاف ولا خروج، ولا من ينكر عليه، وقد عمل الخليفة بعده بهذه الوصايا.
وسمعنا: أنه جاءه ذلك الغلام الذي كان مسبلاً إزاره فشهد له بالخير، ولكن عمر لما رأى إزاره يصل إلى الأرض نصحه، ولو كان في تلك الحال، ولو كان في مرض الموت، فنصحه بأن يرفع إزاره، وقال له: إنه أتقى للرب، وأنقى للثوب، فهكذا كانت عادته رضي الله عنه يحب للمسلمين الخير، ولا يدخر عنهم وسعاً.
وسمعنا كذلك قصة استئذانه أن يدفن مع صاحبيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فاستأذن من أمنا عائشة؛ لأن البيت مسكنها، وقد كانت تحب أن تكون في ذلك المكان مع زوجها وأبيها، ولكنها آثرت عمر رضي الله عنه لما جاءها الخبر بأنه قد طعن، فبقيت تبكي في بيتها، ولما دخلوا عليها وهي باكية، وذكروا لها ذلك لبت طلبه، ووافقت على ذلك، فدفن رضي الله عنه مع صاحبيه.
وقد مر بنا قول علي رضي الله عنه لما دفن عمر مع أبي بكر: كنت كثيراً ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جئت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر) يعني: أنه كان يقرن بينهما دائماً، فكان ذلك دليلاً على أنهما سيقبران معه، وكذلك في حديث أبي موسى المشهور الذي فيه أنه قال: لأكونن بوّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم.
لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في بستان، فجاء أبو بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قد جلس على قُفّ البئر، وكشف عن ساقيه، ودلى قدميه على شفير البئر، فدخل أبو بكر وهو كذلك، ثم جلس عن يمينه في ذلك الجانب، ثم جاء عمر رضي الله عنه، فجلس عن يساره، وامتلأ طرف البئر، ثم لما جاء عثمان وجدهم الثلاثة قد صفوا في أحد جوانب البئر، فقابلهم في جانب آخر، ودلى قدميه مثلهم مقابلاً لهم، يقول الراوي: فأولت ذلك قبورهم، النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر جعلت قبورهم متجاورة، وعثمان جعل قبره وحده، وقد حقق الله تعالى لـ عمر رضي الله عنه ما تمناه؛ ولأجل ذلك يقول بعض العلماء في أبي بكر وعمر: منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة كمنزلتهما منه بعد الممات، فإنهما كانا قرينيه وصاحبيه في حياته، لا يسافر إلا وهما وزيراه دائماً كانا معه، فقرنهما الله به بعد موتهما، فأصبحا قرينين له في حياته وبعد مماته.
وسمعنا أن هؤلاء الستة الذين اختارهم عمر رضي الله عنه، وجعل الأمر فيهم، اجتمعوا وجعل كل منهم أمره إلى واحد، فجعل الزبير أمره إلى علي، وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن، وجعل طلحة أمره إلى عثمان، فأصبح الأمر إلى ثلاثة: عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وكأن عبد الرحمن هو الذي اهتم بهذا الأمر، واشتد عليه أن يمضي وقت ولم يتم للمسلمين اختيار خليفة لهم يقوم بأمرهم، فبقي ثلاث ليالٍ لا يهنأ بالنوم، لا ينام إلا قليلاً؛ من شدة اهتمامه بأمر المسلمين، وكلما جاء أو جلس مع واحد منهم أخذ يناجيه، ويتكلم معه، ويأخذ عليه العهد والميثاق إذا تم له الأمر أن يسير سيرة حسنة، وأن يتبع سيرة الخليفتين قبله، حتى توثق منهما بذلك، فرأى أن الناس يميلون إلى عثمان، وأن عثمان له تجربة، وله مكانة، وله أهلية، فأمره أن يبسط يده للمبايعة، فبايعه عبد الرحمن وبايعه علي، وتمت البيعة، ولم ينقل أن علياً توقف، ولا قال: أنا أحق بها منه، أو أنا ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، بل وافق على ذلك بما أُخذ عليه من العهد، ولا شك أن ذلك دليل على أنه رضي الله عنه لم يكن مخالفاً لما حصل، بل موافقاً له.