فضائل عمر رضي الله عنه أكثر من أن تحصر، وقد أفردت بالتأليف قديماً وحديثاً، فـ ابن كثير رحمه الله صاحب التاريخ ذكر أنه كتب في فضل أبي بكر وعمر كتاباً أتى في ثلاثة مجلدات.
وأفرد بعضهم عمر بالتأليف، وأشهر من كتب فيه ابن الجوزي (مناقب عمر) وهي رسالة مشهورة مبوبة منتشرة، ذكر فيها أبواباً تدل على حنكة عمر وفضله، وذكر فيها فضائله وأحواله، وذكر فيها ما بشره به النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك.
وقد تقدم أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه، وفي حديث أبي موسى لما كان بواب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام، يقول: فجاء رجل فأراد أن يدخل فقلت: من أنت قال: أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عمر فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه) .
كذلك أيضاً من فضائله ما جاء في الحديث الذي أشار إليه الشارح رحمه الله، وفيه أن عمر رضي الله عنه طرق باب النبي صلى الله عليه وسلم وعنده نساء قد رفعن أصواتهن، فلما سمعن صوت عمر ابتدرن الحجاب، وألقين الستر بينهن وبينه، ودخل والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك، فأخبره بأنهن كن رافعات أصواتهن، فلما دخل عمر احتجبن عنه وتسترن، فقال عمر: أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك) والفج هو: الطريق، بمعنى: أن الشيطان إذا لقيه في طريق هرب منه وذهب إلى طريق آخر، وما ذاك إلا لصرامته بحيث إن الشيطان يهرب منه! كذلك شهد النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه من المحدثين، يعني: من الملهمين، يقول: (إنه كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في هذه الأمة فإنه عمر -أو فإن منهم عمر -) ولأجل ذلك يكثر موافقته للسنة وموافقته للقرآن، يقول رضي الله عنه: (وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله! لو حجبت نساءك فإنه يدخل عليهن البر والفاجر؟ فأنزل الله قوله تعالى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب} [الأحزاب:53] ) بمعنى: أنه أشار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقين محجبات في البيوت، ولا يخرجن إلا لحاجة ضرورية، فنزل القرآن موافقاً له، يقول: والمرة الثانية قلت له: (لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت الآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] ) والمرة الثالثة يقول: (إنه قال لزوجات النبي صلى عليه وسلم لما اجتمعن في الغيرة عليه: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت الآية موافقة لما قاله) .
كذلك أيضاً في قصة أسارى بدر لما أشار بقتلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر اختارا أن يمكنوا من الفدية، فجاء حكم الله موافقاً لقول عمر، حيث قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْض} [الأنفال:67] إلى آخر الآيات، فذلك دليل على أنه رضي الله عنه كان من المحدثين الملهمين.
ومن أشهر فضائله أنه دفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وذلك دليل على اعتراف الصحابة بفضله، حتى قال بعض العلماء في أبي بكر وعمر: إن منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته، فهما قريناه في حياته، وكذلك بعد مماته جعلا معه في طرف الحجرة النبوية، أوليس ذلك دليلاً على أفضليتهما، وأنهما صاحباه وحبيباه والمقربان إليه؟ وقد شهد بذلك علي رضي الله عنه في الحديث الذي سبق حين مات عمر رضي الله عنه، حيث قال: (ما تركت أحداً كنت أتمنى أن ألقى الله بمثل عمله إلا أنت) يقول: إنني لا أغبط أحداً وأرجو أن أكون مثله إلا أنت، أما البقية فأنا أقول: إني خير منهم، يعني: من كان بعد عمر رضي الله عنه، فـ علي رضي الله عنه يغبط عمر، ويقول: لا أحد أغبطه وأتمنى أن ألقى الله بمثل عمله سوى أنت يا عمر! يقوله بعد موته.
ثم يشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويحب أبا بكر، ومن آثار تلك المحبة أن جمعا معه في المكان الذي قبر فيه، يقول: كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً يقول: (جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر) يجعل ذلك من المبررات في أن يكون رضي الله عنه أهلاً لأن يجعل إلى جانب أبي بكر، وإلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما حصل، وعلى ذلك فنعترف بأنه هو الخليفة الراشد الذي امتدت خلافته بعد أبي بكر عشر سنين، وهو الذي ظهر من آثاره ومن فضائله الاقتداء التام بالنبي صلى الله عليه وسلم، وله أوليات كثيرة، فهو الذي أشار بجمع القرآن في عهد أبي بكر حين كثر القتل واستحر في القراء في وقعة اليمامة، حيث قتل فيها خمسمائة من حملة القرآن، فخشي رضي الله عنه أن يذهب شيء من القرآن، فأشار بأن يكتب في صحف، ووافقه أبو بكر على ذلك، فكتب في صحف حتى يحفظ ولا يضيع منه شيء، ووافقهما الصحابة على ذلك, كذلك هو الذي وضع التأريخ، واختار أن يكون تقييد التأريخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بعد الهجرة بدأ الإسلام يظهر وينتشر، فجعل التاريخ من أول الهجرة، وأجمعت الأمة بعده إلى يومنا هذا على التأريخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
كذلك هو الذي سن هذه الأوقاف، وهي الأرض المفتوحة عنوة، إذ إنه لما فتحت أرض مصر وأرض الشام وأرض العراق الزراعية جعلها وقفاً على بيت المال، فكانت تزرع وتعاد إلى بيت المال لتموله عند انقطاع الفتوحات ونحوها، وأقره على ذلك الصحابة ومن بعدهم، فلا شك أن ذلك دليل على معرفته بمهام الأمور ومستقبلها.
وقد كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم جريئاً على إنكار ما رآه منكراً، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولكن الرافضة يتتبعون ما يظنون أن فيه شيئاً من العيب والقدح فيه، فيجمعون أكاذيب، ويجمعون وقائع لا مطعن فيها، ويجعلونها طعناً في خلافته، وطعناً في أهليته للخلافة بل في إيمانه، فيجعلونه مرتداً عن الإسلام أو نحو ذلك، وأكبر ما يطعنون به فيه أنه لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ائتوني بأوراق أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده) وكان ذلك في يوم الخميس، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد ثقل، عند ذلك قال عمر: (إنه صلى الله عليه وسلم قد شق عليه فلا تكلفوه، وعندكم كتاب الله) فعند ذلك قام الرافضة يقولون: إن علياً كان هو الخليفة، وإن أبا بكر ليس بخليفة، وإن عمر خاف أن يكتب النبي صلى الله عليه وسلم بالخلافة لـ علي فعند ذلك قال: لا تكتبوا، فحرم الكتابة ومنعها وتجرأ بقوله: عندنا كتاب الله، هذا مطعن يطعنون به في عمر رضي الله عنه، مع أنهم غائبون لم يحضروا ذلك الوقت, ولم يعرفوا الإشارات، ولم يعرفوا القرائن، وعمر رضي الله عنه عرف القرائن المختصة به، وكذلك علي رضي الله عنه كان حاضراً ولم يخطر بباله أنه يكتب له بالولاية، ولا أن عمر حرمه من الولاية أو من الخلافة، فأين في هذا إشارة ولو من بعيد إلى أنه حسد علياً فقال: لا تكتبوا، وعندنا كتاب الله؟ والدليل على ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه لما ذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب كتاباً قال: (من أراد أن يقرأ وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] إلى آخر الآيات الثلاث التي في كل واحدة منها {ِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] ، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152] ، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] .
فالصحابة فهموا أن وصية النبي صلى الله عليه وسلم ليست هي وصية بولاية ولا بخلافة، ولكنها وصية بديانة وبأمانة ونحو ذلك، وليس فيها إشارة إلى خلافة علي ولا غير ذلك، بل قد تقدم في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (ادعي أباك وأخاك أكتب لهما كتاباً، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) فهذا دليل على أنه لو كتب لولى أبا بكر الخلافة، فكيف يزعمون أن عمر هو الذي حال بين علي وبين الخلافة، فيوجهوا الطعن عليه؟ ولهم مطاعن عليه كثيرة لا تحصى، وينشرونها في كتبهم، وكذلك يجعلونها في خطبهم، وفيما يذيعونه فيما بينهم، ويرمونه بالفظائع والعظائم، والله حسبهم، ولكن ذلك لا يضره، بل يكتب أجره عند الله وافياً.
فنعتقد أنه رضي الله عنه خليفة الأمة بعد أبي بكر، وأن له الفضل وله الميزة، فهو أفضل الأمة بعد أبي بكر، وهو خليفة الأمة بعد أبي بكر، وهو أحد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم.