السلف إنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة

[فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة.

ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه -على ما يليق بالله- لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف.

فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً بمنزلة حرف المعجم.

وأيضاً: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى؛ وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات.

وأيضاً: فإن من ينفي الصفات الخبرية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف.

فمن قال: إن الله ليس على العرش.

لا يحتاج أن يقول: بلا كيف].

أي: أن الشيء إذا كان ممتنعاً من أصله لا تحتاج في العقل والخطاب -أياً كان المخاطب- إلى التصريح بنفي القدر الزائد.

ولنفرض لذلك مثالاً مناسباً قريباً، من أراد أن يقول: إن زيداً ليس في المسجد، لا يحتاج إلى أن يقول: إن زيداً ليس قائماً في المسجد؛ لأنه من الأصل ليس موجوداً، فإذا خصص النفي بنفي قدر معين زائد على أصل الوجود أو أصل المعنى أو أصل الثبوت دل على أن ما دونه ثابت.

إذاً السلف لما صرحوا بنفي العلم بالكيفية دل على أن ما دون الكيفية -وهو العلم بأصل المعنى- معلوم اللفظ.

[فلو كان من مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف].

سبحان الله هي فطرة! لكن التأويل يلحقها، ولهذا ترى أن المتكلم ممن ينفي غضب الله إذا دعا على اليهود قال: اللهم أنزل عليهم غضبك.

فترى أن الفطرة تقرر هذه المعاني من الصفات، وإذا سأل الله لنفسه أو للمسلمين قال: اللهم إني أسألك رحمتك ..

وهلم جرا، فترى أن الفطرة تستقر على هذا، ولهذا ما ترك العامة من المسلمين على ظاهر القرآن إلا ولم يتأثروا فيه، ولهذا يضاف عوام المسلمين بأمصارهم إلى أهل السنة والجماعة، ولو كان يختص بهذا المصر من هم من علماء المعتزلة أو الأشاعرة ..

إلى غير ذلك.

وبهذا يتبين أن ما يردده البعض أحياناً من أن علماء الأشاعرة هم جمهور علماء الأمة، أو أن الأشاعرة هم جمهور الأمة، ويقصد بذلك استنكار القول عنهم: أنهم مبتدعة أو ضلال وقعوا في ضلال عن الحق ..

باطل وخطأ، وإن كان الأشاعرة أصابوا في مسائل كثيرة ووافقوا السنة في مسائل كثيرة، لكنهم ليسوا موافقين للسنة موافقةً محضة، فهم كما قال شيخ الإسلام: أقرب الطوائف الكلامية إلى مذهب أهل السنة والجماعة.

وذلك لأن علماء الأمة -وأخصهم الصحابة رضي الله عنهم، وعنهم انتشر العلم في الأرض، وأئمة التابعين ومن بعدهم أهل القرون الثلاثة الفاضلة- ليس فيهم أشعري، بل هؤلاء ظهروا قبول ظهور مدرسة أبي الحسن الأشعري، كذلك سواد المسلمين في عصورهم من العامة وأمثالهم يضافون إلى أهل السنة والجماعة؛ إلا من تلبس من العامة ببدع الأئمة كما يوجد في بعض الطوائف، ولا سيما من الطوائف المتشيعة وأمثالها.

[وأيضاً: فإن من ينفى الصفات الخبرية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن الله ليس على العرش لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان من مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف.

وأيضاً فقولهم: أمروها كما جاءت.

يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظها دالة على معاني؛ فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا ألفاظها.

مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف؛ إذ نفي الكيف عن ما ليس بثابت لغو من القول].

نفي الكيف عما ليس بثابت من جهة نصه أو معناه لغو من القول؛ لأنه تخصيص للقدر الزائد بالنفي في أمر منتف من أصله، هذا لا يكون، بل هو لون منه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015