ظهور القدرية

في آخر عصر الصحابة بعد عصر الخلفاء الراشدين ظهرت بدعة أخرى في أصول الدين، وهي: بدعة القدرية الذين قالوا: لا قدر، إنما الأمر أُنُف.

وقد أدركت بدعتهم طائفة من الصحابة كـ ابن عمر وواثلة وجابر بن عبد الله وابن عباس فتبرأوا منهم.

والقدرية صنفان:

الصنف الأول: منكرة لعلم الرب، ومن باب أولى ينكرون ما بعده، فهؤلاء كفار عند السلف.

الصنف الثاني: وهم جمهورهم، وقد تقلد قولهم المعتزلة، بل ودخل على طائفة من رجال الإسناد، وهم القائلون بأن الله لم يخلق أفعال العباد.

إذاً: القول بإنكار علم الرب بأفعال العباد هو قول غلاتهم، وقد انتهى أمره في الجملة، ولا إشكال في كفرهم لتظافر الدلائل الشرعية القاطعة بكفر من قال ذلك؛ لأنه وصف لله بالجهل.

ولكن الجمهور من القدرية أقروا بأن الله علم ما كان وما سيكون، ومن ذلك أفعال العباد، ولكنهم قالوا: إن الله لم يخلقها ولم يردها ولم يشأها.

وهذا المذهب هو الذي شاع في جمهور القدرية، وقد تقلدته المعتزلة بأسرها، وقد دخل جمهور هذا المذهب في آخر المائة الثالثة على طوائف الشيعة من الإمامية والزيدية وغيرها، وكذلك دخل على بعض رجال الحديث؛ حتى قال الإمام أحمد: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة.

لكن ينبه هنا إلى مسألة لطيفة، وهي: أن القول بالقدر الذي كان يقول به بعض رجال الإسناد لم يعتبروه على طريقة المتكلمين من المعتزلة، أي: أن تقرير المعتزلة أصحاب العلم الكلامي لهذه المسألة يختلف عن القول الذي شاع عند بعض رجال الحديث في البصرة وفي الشام، ولهذا كان قول هؤلاء أخف من قول المعتزلة، مع أن النتيجة تكاد تكون متقاربة؛ فقد أثبتت المعتزلة قولها في هذا الباب على الأصول الكلامية، لذلك رتبت مسائل كثيرة بعد مسألة أفعال العباد كالقول في الهدى والإضلال، والقول في مسائل التكليف ومسائل الظلم والأصلح، والقول في التحسين والتقبيح العقلي

إلى غير ذلك من المسائل التي رتبها المعتزلة ترتيباً كلامياً، ولم يكن رجال الحديث الذين وقعوا في بدعة القدر يتكلمون في هذا على هذا التنظيم والترتيب الذي ذكره المعتزلة.

وقد قال المعتزلة في مرتكب الكبيرة قولاً مقارباً لقول الخوارج، لكنهم لم يحكموا عليه بالكفر في الدنيا، وإنما قالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، وهي: منزلة الفسق المطلق، أي: ليس معه من الإيمان شيء وليس كافراً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015