القتال في صفين والجمل لم يكن من باب قتال البغي المتعين، وإن كان الذين لم يتبعوا علياً رضي الله عنه ويسلموا له قد وصف النبي صلى الله عليه وسلم طائفتهم في الجملة بأنها باغية كما ثبت في الصحيح: (تقتل عماراً الفئة الباغية) ولكن مع ذلك معها شيء من الحق، فقد ثبت في الصحيح: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أَولى الطائفتين بالحق).
فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم مجتهدون، والمخطئ منهم له أجر، والمصيب له أجران كما في الصحيحين عن عمرو بن العاص مرفوعاً: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) لذلك كان مذهب السلف رحمهم الله في القتال الذي جرى بين الصحابة، أنه يكف عن ذلك، وأنهم مجتهدون في هذا، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في القتال في صفين على ثلاث طوائف:
1 - طائفة مع علي.
2 - طائفة مع معاوية.
3 - طائفة اعتزلوا القتال كـ محمد بن مسلمة وأبي بكرة وسعد بن أبي وقاص، وقد كان أفضل الناس إذ ذاك بعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل إنه بالغ في الاعتزال حتى خرج إلى إبله وترك المدينة.
وظاهر مذهب أحمد تصويب الموقف الذي اتخذه سعد رضي الله عنه وأمثاله، قالوا: لأن علياً مال إليه في آخر الأمر.
لكن تبقى المسألة مسألة نزاع بين السلف: هل كان الصواب ترك القتال أم كان الصواب مع علي في قتاله؟
وهذا بخلاف مسألة أن علياً أولى بالحق، فإن فيها إجماعاً للسلف، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: من لم يربع بـ علي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله.
لكن مسألة السيف هذه مسألة مختصة في هذا الباب؛ ولهذا كان أحمد يرى بل يحكي الإجماع على أن علياً أولى بالحق، وأن من لم يربع بخلافته فهو أضل من حمار أهله لما ثبت في السنة -في المسند وغيره- من حديث سفينة وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الخلافة بعدي ثلاثون) فخلافة علي خلافة راشدة بإجماع السلف، وإن كان معاوية قد اجتهد فأخطأ، ولكن مسألة السيف فيها تردد بين الأئمة: هل الصواب تركه أم الوقوف مع علي، ولم يرجح سيف معاوية أحد من الأئمة المتقدمين، وإن كان هذا مسلك طائفة من الفقهاء المتأخرين.
فهذا القتال طرف، والقتال الذي وقع في زمن أبي بكر طرف آخر، وقتال الخوارج وسط بين هذين القتالين، فإنهم ليسوا كالصحابة في صفين والجمل -هذا بالإجماع عند السلف- وليسوا كذلك كالمرتدين، فإن الراجح في الخوارج أنهم ليسوا كفاراً وإن كانوا بغاةً بغياً شديداً، لكن الصحابة رضي الله عنهم الذين قاتلوهم بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتبروهم كفاراً، حيث لم يأخذوا فيهم سنة الكفار في القتال كالإجهاز على الجريح، واتباع المدبر، واستباحة النساء والذراري والغنائم وأمثال ذلك، وقد حكى شيخ الإسلام أن مذهب الصحابة رضي الله عنهم أن الخوارج ليسوا كفاراً وإن كانوا بغاةً بغياً شديداً، وإنما موجب القتال الذي شرع فيهم دفعاً لصولهم عن المسلمين لا من باب أنهم كفار.
وهذه المسألة لا بد من ضبطها؛ فإن الشريعة قد تأمر بقتل من ليس كافراً أو بقتاله، وقد تمنع قتل من هو كافر أو تمنع قتاله.
فإن اليهود والنصارى إذا دفعوا الجزية لا يجوز قتالهم ونقض العهد معهم بالإجماع، وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في أخذ الجزية من غير اليهود والنصارى، وكذلك المُعاهَد لا يجوز الاعتداء عليه ولو لم يكن من أهل الجزية ما دام أنه في مدة العهد الذي فرضها المسلمون له.
وبالمقابل فإن القاتل عمداً يُقتل مع أنه مسلم، والزاني المحصن يرجم مع أنه مسلم، والمحارِب إذا ثبت فيه حكم الحرابة فإنه يقتل على الصفة التي ذكرت في سورة المائدة، مع أنه بالمحاربة لا يخرج من الملة.
وكذلك إذا اجتمعت طائفة على بغي شديد ولم يندفع صولها وشرها عن المسلمين إلا بالمقاتلة فإنها تقاتل، وإن كان حكمها أنها مسلمة.
إذاً: اختلف الصحابة في حكم القتال الذي وقع بينهم، لكنهم لم يختلفوا في قتال الخوارج؛ حيث إن قتال الخوارج مشروع بالنص والإجماع، أما النص فهو النص النبوي، وإما الإجماع فهو إجماع الصحابة على قتالهم.
أما القتال الذي بين الصحابة فهو ليس مشروعاً لا بالنص الصريح ولا بالإجماع، أما الإجماع فالصحابة لم يجمعوا، وأما النص فإن النص المستدل به في هذا هو محل نزاع بين الأئمة، وقد كان شيخ الإسلام رحمه الله يميل إلى أن الكتاب والسنة ليس فيهما دليل على هذا القتال الذي وقع بين الصحابة، ويقول: إن هذا مذهب أحمد والجمهور من السلف.