وهذه العمومات ربما اقتضت خلاف التفصيل الذي فصلناه، لكنا نخصصها بما أشرنا إليه من طرق الاستدلال والاعتبار بشواهد الأصول.
وقد ذكر أبو حامد الإسفرائيني في أن مالكًا ينهى عن الاحتكار فيما يضر إذا كان من الأقوات؛ ولا ينهى عنه إذا كان خارجًا عن ذلك، مثل السكّر وشبهه. ونحن قدمنا من مذهبه ومذهب أصحابه خلاف ما أشار إليه. قال: وأما صاحبنا -يريد الشافعي- فلم يذكر. هذا. وأشار إلى أنه لم يتكلم على المسألة، ولهذا أسندها لمالك.
فإذا وقع الادخار على الوجه الممنوع، فقد حكى ابن مزين عن عيسى أنه قال: يتوب المحتكر، ويخرج ما اشتراه إلى السوق، ويبيعه من أهل الحاجة برأس ماله الذي اشتراه به. وذكر غيره من أصحاب مالك أنه إن لم يفعل هذا بيع عليه من أهل السوق، يشتركون فيه برأس ماله إن علم، أو بقيمته يوم اشتراه.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
أما إن احتكر ذلك المحتكر على وجه يجوز، ثم حدث غلاء وشدة احتيج فيه إلى الطعام المحتكَر، فإنه سئل مالك: هل يباع عليه هذا الطعام؟ فقال: ما سمعت. وذكر عنه أيضًا أنه قال: يؤمر بإخراجه إلى السوق فيبيعه من الناس.
وقيل أيضًا: إن لم يفعل، فعل الإِمام ذلك. وهذا تغليب لأحد الضررين، لأن الإضرار بهذا بإخراج ملكه عنه بغير رضاه أخف من ضرر الناس بعدم أقواتهم.
وقال أبو داود: اتفق العلماء، إلا من لا يعد خلاقه خلافًا، على أن من احتكر طعامًا ثم احتاج الناس إليه، واشتدت فاقتهم إلى الاقتيات به وهو مستغن عنه، أنه إن لم يبعه بثمن مثله فهو عاص.
وإذا كان لا حاجة لهم به، فإنه لا حرج عليه في إمساكه رجاء غلائه. وأما المحتكر على وجه يجوز، فهل يأثم بتمني غلاء الطعام ليعظم ربحه فيه أم لا؟ فظاهر مذهب مالك أنه لا حرج عليه في إمساكه رجاء غلائه ومحبته لارتفاع سعره. وقد قال لما سئل عن هذا: ما أحا إلا يحب غلاء سلعته.