وجاء في الحديث الآخر في أمر المساكين: (أن أبا سفيان أتى على سلمان، وصهيب، وبلال في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها).
يعني: أن هؤلاء كانوا من فقراء الصحابة، فكانوا جالسين في نفر، فمر أبو سفيان قبل إسلامه، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها؛ لأنهم يتذكرون ما عمل فيهم أبو سفيان في يوم أحد، وقد كان هو شيخ قريش، وهو الذي يجمع على النبي صلى الله عليه وسلم الأعداء، فقال هؤلاء الصحابة: إنه يستحق أن تقطع رقبته في يوم من الأيام، ولكن أراد الله به الرحمة فرحمه وأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ولكنهم قالوا هذا القول لكثرة ما عانوا منه ومن أمثاله في أيام كفرهم، فـ أبو بكر الصديق الذي يطمع أن يتألف هذا الرجل وأن يدخله في دين الله سبحانه، لما سمعهم يقولون هذا الكلام قال لهؤلاء: (أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم).
أي: إن أبا بكر يطمع أن يسلم أبو سفيان، فلذلك لا يحب أن يضايقه أحد بكلمة تؤذيه فينفره عن دين الله سبحانه، فقال لهؤلاء الصحابة الأفاضل: (أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم، فلما قال ذلك وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك)، أي: إن كنت أغضبت هؤلاء الفقراء المساكين الذين يحبون الله فقد أغضبت ربك، (فإذا بـ أبي بكر يهرع إليهم، فأتاهم، فقال: يا إخوتاه! هل أغضبتكم؟ فقالوا: لا، ويغفر الله لك يا أخي).
فهذا أبو بكر الصديق الذي قال الله عنه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] والذي أنفق ماله كله في سبيل الله سبحانه، والذي واسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر معه، فصفاته عظيمة، وأفعاله وخيراته كثيرة، ويكفي أنه أول العشرة المبشرين بالجنة الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كنت أغضبت هؤلاء فقد أغضبت ربك)، وفيه بيان أن الإنسان المؤمن لا يستكبر على فقراء المؤمنين المتواضعين، ولا يتعالى عليهم ولا يؤذيهم ولا يغضبهم ولا يبتعد عنهم، بل يحبهم ويتقرب منهم؛ لعلهم ينفعونه في الدنيا بدعواتهم الطيبة، وفي الآخرة بشفاعتهم.