ومن الأحاديث العظيمة التي تدفع كل إنسان إلى أن يحسن خلقه، وأن يتعامل مع الناس بما يحب أن يتعاملوا به معه، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)، فالله يبغض الإنسان الفاحش في كلامه وفعاله، والبذيء: هو صاحب الألفاظ القبيحة.
قال صلى الله عليه وسلم: (وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة) أي: قد تجد إنساناً كثير الصلاة، والمقصود هنا بصاحب الصلاة: صلاة النافلة، وإلا فالمسلمون كلهم محافظون على صلاة الفريضة، وليس فيها كلام، ولا يعني هذا: أن يترك شخص الصلاة نهائياً ويقول: خلقي حسن وسأبلغ به ذلك، فنقول له: نعم تبلغ، ولكن إلى الكفر والعياذ بالله، والصلاة هي الأصل ولابد منها، والصلاة التي ذكرها في هذا الحديث هي: صلاة النافلة، والصوم المذكور هو: صوم النافلة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى قال: (وأنه لم يتقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه) فيتقرب الإنسان أولاً بالفريضة، ثم بالنوافل حتى يحبه الله سبحانه تبارك وتعالى، وإذا كانت هذه النوافل معها حسن الخلق فما أعظم حظ هذا الإنسان! فقد وصل إلى درجة عظيمة جداً.
وقد يكون الإنسان مصلياً وصائماً ولكن لا يصلي نوافل كثيرة، أو يصوم نوافل كثيرة، ولكنه حسن الخلق، فيتعامل مع الناس بحلم وبلين، فلا يغضب، ولا يحمق، وليس من الذين إذا أتيت أحدهم بكلمة أتاك بعشر! ولكنه يصدق ويحلم على الناس، فهذا من أفضل الناس، وقد يبلغ بحسن خلقه درجة الصوّام القوّام، كما في الرواية: (ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة).
وفي رواية أخرى: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل، الظامئ بالهواجر)، فهذا إنسان يقيم الليل ويظمأ بالهواجر، أي: يصوم بالنهار الحار جداً في أيام الصيف الشديدة، وصاحب الخلق الحسن قد يبلغ درجته أو أعلى منه، وفي رواية أخرى: (إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوّام القوّام بآيات الله، بحسن خلقه وكرم ضريبته).
فالمسلم المسدد: هو الموفق الذي وفقه ربه لحسن الخلق، وطاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، (ليدرك درجة الصوّام)، أي: الذي يصوم النوافل المواظب على ذلك، فهذا الحسن الخلق لا يصوم كثيراً من النوافل، ولكن يبلغ بحسن خلقه درجة هذا الصوام القوام بآيات الله بحسن خلقه، وكرم ضريبته، والضريبة هنا: الطبيعة، أي: أن طبيعته كريمة وسمحة وسهلة، وليس فيه عنف، وهذه هي فيه طبيعة وسجية سهلة، فهذا من أعظم الناس درجة.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكر لنا فيه أن الناس ثلاث درجات، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت) أي: أنا ضامن، والزعيم هو الضامن، ومنه قول نبي الله يوسف: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] أي: وأنا ضامن، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: أنا ضامن، ومتكفل لهذا الإنسان بهذا البيت في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)، والجنة درجات، والمعنى: أنا ضامن أن يدخل الجنة بترك المراء وإن كان محقاً، والمراء: الجدل.
والجدل يفسد العلاقات بين الناس، حتى لو أنت على صواب إذا فتحت باب الجدل مع إنسان لا تصل معه في النهاية إلى شيء، وخاصة إذا كان مخاصماً عنيداً، وهذا في أمور الدنيا، فإذا كان في أمر الدين فالأفضل للإنسان أن يقفل باب الجدل إلا أن يحتاج للرد على كافر، أو صاحب بدعة، ولكن لا تبقى هذه عادة الإنسان في كل وقت، فيتوهم أن هذا ابتدع بدعة فيقول: لا تتكلم معه، ولا تفعل معه أي شيء، هذا فعل كذا فلا أتكلم معه، ولا أناقشه، بسبب وبغير سبب! ولكن إن احتاج إلى ذلك فعل، ولا يرضى أن تكون كثرة الجدل طبيعة في نفسه أبداً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا ضامن -أي: أنا زعيم- ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)، وهذه هي الدرجة الأولى، وهي أقل درجات الجنة.
الدرجة الثانية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وببيت في وسط الجنة) أي: أعلى قليلاً من الأول، (لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) فضمن له بيتاً في وسط الجنة إذا كان لا يكذب، حتى ولو كان يمزح مع صديق أو مع الناس فلا يكذب، ولم يبح النبي صلى الله عليه وسلم الكذب إلا في أحوال: