قال رحمه الله تعالى: [والإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا، فإنه لابد له من حركة يجلب بها منفعته، وحركة يدفع بها مضرته، والشرع هو الذي يميز بين الأفعال التي تنفعه، والأفعال التي تضره، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده، فلا يمكن الآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه ويتركونه.
وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، بل الإنسان المنفرد لابد له من فعل وترك، فإن الإنسان همام حارث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء حارث وهمام) وهو معنى قولهم: متحرك بالإرادة، فإذا كان له إرادة فهو متحرك بها، ولابد أن يعرف ما يريده، هل هو نافع له أو ضار؟ وهل يُصلحه أو يفسده؟ وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم، كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم، وبعضه يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم، وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم، وهدايتهم لهم].
المعارف غير العقيدة، وهذا مما يجب التنبه له، لا سيما بعدما كثر الذين لا يفهمون العقيدة، وبدءوا يشككون في المسلّمات، زعماً منهم أن العقل هو الذي يقرر الثوابت، مع أن هناك فرقاً بين المعرفة والاعتقاد، فالمعرفة قد تتحول إلى اعتقاد وقد لا تتحول، والاعتقاد هو الأمر اللازم شرعاً، سواء كان مما تقتضيه الفطرة والعقل السليم أو لا تقتضيه، بمعنى: سواء كان مما ندركه أو لا ندركه.
ومن هنا فإن مفهوم العقيدة أخص وألزم من المعرفة، وعلى سبيل المثال: فإن العقول السليمة والفطر المستقيمة تُدرك كمال الله عز وجل، لكن هل كل عقل يُدرك ذلك؟ لا، فليس كل عقل يدرك ذلك، فبعض العقول قد يعتريها الخلل، والهوى، والنقص، والخواطر، والوساوس، والأوهام إلى غير ذلك، بل غالب العقول وأكاد أجزم أنه يندر أن يوجد العقل السليم الذي يقرر هذه الثوابت العلمية المعرفية، والتي هي ثوابت شرعية بموجب النصوص، ولذا أقول: إن العقول السليمة والفطر المستقيمة تقرر كمال الله عز وجل ووحدانيته، وأنه الخالق وحده، وتقرر وجوب العدل الذي هو من أصول الاعتقاد عندنا، ودفع الظلم عن الخلق، وتقرر حاجة الناس إلى شرع يحكمهم، وهذا الشرع ينبغي ألا يكون منهم، بل ممن هو عليم خبير بالخلق، والعقول السليمة تدرك ذلك.
ثم إن العقول السليمة أيضاً تُدرك ضرورة البعث، لكن ومع ذلك هل ممكن أن هذه المعارف تتحول إلى حقائق يقينية بدون ما يرد بها الشرع على جهة الإلزام؟ أقول: في الأمر شك؛ لأن البشر لا يطيع بعضهم بعضاً في المعارف، فلو أن واحداً من الناس أو مجموعة من الناس قرروا قضية فطرية، فإنهم لا يستطيعون أن يقولوا للناس: إنها لازمة، إلا بتكلف ودلائل وبراهين قد تقنعهم وقد لا تقنعهم، لكن إذا قالوا: هذا هو حكم الله الذي جاء من السماء، هذا الوحي المعصوم، أصبح عقيدة عند من يدين بالوحي، وهذا شيء.
والشيء الآخر: أن الفطر السليمة وافقت الشرع، لكن حينما وافقت الشرع هل جاءت لنا بالتفاصيل؟ هناك تفاصيل تتعلق بجميع القضايا التي تدركها العقول على الإجمال، وهناك تفاصيل لا يمكن أن تُدركها العقول إلا بالوحي، وهي مناط الاختبار والتكليف، فمثلاً: عندما تُدرك العقول كمال الله عز وجل، فهل تستطيع أن تصف الله وتسميه بأسمائه الحسنى كما جاء في الكتاب والسنة؟ لا؛ لأن من أوصاف الله عز وجل ما لا يمكن أن تصل إليها العقول ولو لم يرد في الكتاب والسنة، كإثبات الاستواء على العرش، واليد، والوجه، والنزول، والمجيء، والكلام وغير ذلك من الصفات الثابتة، والعقل السليم لا ينكرها ما دام أنها قد ثبتت، لكن قبل أن تثبت لا يستطيع أن يقول فيها بشيء، فمثلاً: البعث، فإن العقل السليم والفطرة يُدرك مجملات البعث، لكن هل يعرف عذاب القبر ونعيمه، والبعث، والحشر، والنشور، والصحف، والميزان، والصراط، وتفاصيل نعيم الجنة، وتفاصيل عذاب النار؟ كل ذلك لا تدركه العقول.
إذاً: المجملات لا تقرر العقيدة، وإنما تقرر المعارف فقط، والعقيدة التي ينجو بها العبد عند الله عز وجل لا تقررها العقلية السليمة استقلالاً، ولا الفطر المستقيمة استقلالاً، كما أن المجملات لا تنفع، فإن من المشركين من عقلاء الكفار الآن من يدرك هذه المجملات، وكتبوا في ذلك كتابات، وهي موجودة الآن، لكن هل تنفعهم؟ هل تدخلهم الإسلام؟ لا.