قال رحمه الله تعالى: [وفي هذا المقام تكلم الناس في أن الأفعال هل يُعرف حسنها وقبيحها بالعقل، أم ليس لها حسن ولا قبيح يعرف بالعقل؟ كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبينا ما وقع في هذا الموضع من الاشتباه، فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يُعلم بالعقل، وهو أن يكون الفعل سبباً لما يحبه الفاعل ويلتذ به، وسبباً لما يبغضه ويؤذيه.
وهذا القدر يعلم بالعقل تارة، وبالشرع أخرى، وبهما جميعاً أخرى، لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل، ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعرف إلا بالشرع، فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر، وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك.
وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان، وجاء به الكتاب هو ما دل عليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45].
ولكن توهمت طائفة أن للحُسن والقبح معنى غير هذا، وأنه يعلم بالعقل، وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحُسن والقُبح يخرج عن هذا، فكلا الطائفتين اللتين أثبتتا الحُسن والقُبح، العقليين أو الشرعيين، وأخرجتاه عن هذا القسم غلطت].
يعني: أنه لابد من التفصيل، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، وسيأتي بيانه، ولذلك قالت المعتزلة: بأن الحُسن والقُبح عقليان، بينما الأشاعرة والماتريدية وبعض المتكلمين قالوا: الحُسن والقُبح شرعيان، والصحيح: أن الحُسن والقُبح منه ما هو عقلي، ومنه ما هو شرعي، فالعقول بالجملة تحسّن العدل والفضائل، وتحسّن التزام شرع الله، وتحسّن الخير، وتُقبِّح الشر والرذائل والظلم، لكن هذا على جهة الإجمال، أما التفصيل فلا بد أن يأتي به الشرع؛ لأن هناك أموراً لا تُدرك العقول حُسنها وقُبحها إلا بالشرع؛ لأنها غيب بحت خالص.
إذاً: التفصيل هو الصحيح، وكون العقول لها مدخل في التحسين والتقبيح لكن ليس على جهة التفصيل، فعلى هذا أخطأت الفئتان عندما بالغوا في التحسين والتقبيح، وقالوا: كل حسن هو ما حسّنه العقل، وكل قبيح ما قبّحه العقل، لذا فإن الشرع قبّح أشياء لو لم يأت بها الشرع ما استطاع العقل أن يقبّحها، والعكس كذلك، أي: أن هناك أشياء حسّنها الشرع لو لم يأت بها الشرع ما استطاع العقل أن يحسّنها.
قال رحمه الله تعالى: [ثم إن كلتا الطائفتين لما كانتا تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا، والسخط والفرح ونحو ذلك مما جاءت به النصوص الإلهية، ودلت عليه الشواهد العقلية، تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح، هل ذلك ممتنع لذاته، وأنه لا يتصور قدرته على ما هو قبيح، وأنه سبحانه منزّه عن ذلك، لا يفعله لمجرد القُبح العقلي الذي أثبتوه؟ على قولين.
والقولان في الانحراف من جنس القولين المتقدمين، أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال، والطاعة والمعصية، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، والرحمة والعذاب، فلا جعلوه محموداً على ما فعله من العدل أو ما تركه من الظلم، ولا ما فعله من الإحسان والنعمة، وما تركه من التعذيب والنقمة، والآخرون نزّهوه بناء على القبح العقلي الذي أثبتوه، ولا حقيقة له، وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح، وشبهوه بعباده فيما يأمر به وينهى عنه].
على أي حال هذه فلسفة، والوسط والتفصيل في هذه الأمور هو الحق، والظاهر من كلام الفلاسفة، وتبعهم المعتزلة في هذه المسألة بالذات، وبعض طوائف المتكلمين، أنهم قالوا: بأن الله عز وجل كونه لا يفعل القبيح راجع إلى أنه لا يتصور منه ذلك ولا يقدر عليه، ولذلك عبّروا عن الله عز وجل بعبارات منها: أنه لا يقدر ولا يفعل، وهذا من سوء الأدب مع الله عز وجل، والخوض فيما لا طاقة للعقول به، وهو أيضاً نوع من التكلّف الذي نهى الله عنه، ثم إنه يُلزم بإلزامات كلها باطلة، فلذلك الأولى للمسلم ألا يتحدث عن هذه الأمور، فإن الله عز وجل فعّال لما يريد، وهو لا يفعل الشر؛ لأنه ليس مقتضى الحكمة، فالله كما أنه فعّال لما يريد فهو سبحانه عليم خبير حكيم، والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها، فلا يقال: إنه لا يقدر على فعل الشر، وكذلك العكس، والذين قالوا: إن هذا مقتضى ثوابت هي لازمة لله عز وجل، ليس بصحيح؛ لأن الله عز وجل لا يلزمه شيء.