قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ولهذا من قال: إن الله لا يصدر عنه إلا واحد، لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، كان جاهلاً، فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء، لا واحد ولا اثنان، إلا الله الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون، فالنار التي خلق الله فيها حرارة لا يحصل الإحراق إلا بها، وبمحل يقبل الاحتراق، فإذا وقعت على السَّمَنّدَل والياقوت ونحوهما لم تحرقهما، وقد يُطلى الجسم بما يمنع إحراقه، والشمس التي يكون عنها الشعاع لابد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، فإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف لم يحصل الشعاع تحته، وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أنه لابد من الإيمان بالقدر، فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو نظام التوحيد.
فمن وحّد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحّد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده].
في بداية الكلام أشار الشيخ إلى مسألة هي في الحقيقة فلسفة، حيث أراد بها الرد على الذين عندهم النزعات الفلسفية، ومن تأثر بمقولة: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وهذه فيها صيغ كثيرة عند طوائف من الفلاسفة، وأشهرها: أنهم يزعمون أن الذي يدير الكون على جهة التفصيل ليس هو الله عز وجل، لأن الله واحد، والواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فينكرون الأفعال لله عز وجل، ولا يعتقدون أن الله فعّال لما يريد، ولذلك بعضهم وضعوا صنماً وسيطاً يزعمون أنه يدبّر الكون، وسموه بـ (العقل الفعّال)، وتسميه الصوفية بـ (الغوث) أو (القطب)، فهذا عندهم هو الذي يحكم جزئيات الأفعال في الكون، ويخلق الأسباب ويدير الكون، وهذا ناتج عن نظرتهم التجريدية الإلحادية لله عز وجل، فهم لا يرون لله وجوداً فعلياً ذاتياً، ومن هنا لا يرون أن الله عز وجل يفعل، ويزعمون أن توحيده يقتضي تنزيهه من الفعل، ولذا نجد أثر هذه المقولة عند الفرق الكلامية من الجهمية مثلاً، إذ إنهم ينكرون الأسماء والصفات عموماً؛ لأنهم لا يرون أنه قابل للتسمية ولا الوصف، ومن ذلك ألا يُسمى خالقاً، ولا مدبراً، ولا فعّالاً، ولا يوصف بذلك.
ثم جاءت المعتزلة وخففت هذا الضلال، فأخذت بنصفه وتركت نصفه، فأثبتت الأسماء وأنكرت الصفات، وذلك ناتج عن أنهم لا يرون أن الله عز وجل قابل للوصف؛ لأن ذلك يلزم منه إثبات وجوده الذاتي، وإذا ثبت وجوده الذاتي ثبت علوه واستواؤه على عرشه، وأنه فعّال لما يريد، وهم ينكرون ذلك.
ثم تسلسلت هذه المقولة الخبيثة إلى علماء الكلام من غير المعتزلة، ممن يُنسبون للمتكلمين، وكذلك الذين ينتسبون للأشعري والماتريدي، فأنكروا أيضاً الصفات الفعلية لله عز وجل، ثم بعد ذلك أنكروا الصفات الذاتية، وكل ذلك أيضاً راجع إلى هذه النزعة، أي: أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، مع أنهم لا يصرّحون بها، لكنهم أخذوا بلوازمها، فأنكروا الأفعال لله عز وجل.
قال رحمه الله تعالى: [ولابد من الإيمان بالشرع، وهو الإيمان بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، كما بعث الله بذلك رسله، وأنزل كتبه].