قال المصنف رحمه الله تعالى: [لاعتقاده أنها لا تعلم إلا بالعقل فقط، فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق، وخبر الصادق -الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم- لا يعلم صدقه إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل].
ملخص هذا: أنهم يحصرون العلم الإلهي -علم الوحي- بالدليل العقلي، ومن هنا جعلوا العقل هو الحكم، فيحاكمون الشرع إلى العقل، وهذا ضلال وزلل، فالمسألة عندهم قد انتكست تماماً، ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عكس عليهم هذه القضية عكساً فطرياً عقلياً صحيحاً، أعني: قضية تقديم العقل على النقل؛ لأنهم قالوا: إن العقل هو وسيلة لفهم الشرع، وما دام أنه وسيلة فهو إذاً الحاكم الذي يحكَّم في الشرع، فإذا تعارض شرعي وعقلي قدمنا العقلي؛ لأن العقلي هو الأصل، وهو المقدم، فالشيخ قلبها عليهم، فقال: لماذا لا تقولون العكس؟ فما دام الوحي هو كلام الله العليم الخبير سبحانه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، اعكسوا القضية وقولوا: إن الأصل هو الشرع، والعقل تابع ومؤيد، وعلى هذا فإنه إذا تعارض قطعيان عقلي وشرعي، اعتبرنا الأصل هو الشرع، ونتهم العقل ونحكم الشرع، ونرده إلى عالمه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذه قاعدة عقلية، أعني: قاعدة فهم القدر وغيره من الغيبيات- في الحديث الشهير: (فما علمتم منه -يعني: مما ورد عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم- فاعملوا به، وما لم تعلموا فردوه إلى عالمه)، ولم يقل: ردوه إلى العقول، ثم قال: (وقولوا: الله أعلم)؛ لأن العقول متناهية محدودة، ولذا لو أتيت بأذكى الخلق لما وصل إلى حقيقة غاية صغرى من غايات الشرع، فكيف بالغايات كلها؟ وعلم الخلق كله بما فيه أذكياء العالم لا يساوي شيئاً أمام علم الله.
إذاً: كيف يجرؤ إنسان يخاف الله عز وجل ويتقيه أن يقول: العقل مقدم وحكم على الشرع؟! فلذلك شيخ الإسلام قال: اقلبوها وستصح العبارة، وفعلاً عندما تقلبها تجد أن هذا ينسجم مع الفطرة.