فساد دلائل المتكلمين

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهي أيضاً عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضاً، وكثير من أهل الكلام يسمي هذه: (الأصول العقلية)].

يقصد أهل الكلام أننا نذمهم في ذلك، لا؛ لأنهم قالوا بأصول عقلية فقط، وكثير من أهل الكلام يسمون هذه الأصول العقلية: (الدلالات) و (القرائن) و (الشواهد) و (الأمثال المضروبة) و (الأقيسة)، وهذا حق أنها أصول عقلية، لكن وجه الخطأ الذي أراد الشيخ أن يبينه أنهم جعلوها مصدر التلقي، فجعلوا العقل هو المصدر، وأنه حاكم على الوحي، ومن هنا وقع الخلل، ولذلك أهل السنة والجماعة يوافقونهم على أن العقل يقرر الأصول، وأن العقل يوافق النص، وأن العقل هو الذي يفهم الأقيسة والأمثال المضروبة في القرآن، لكنهم لا يجعلونه الدليل الوحيد، أو المصدر، وإنما هو خادم للمصدر، ووسيلة لفهم كلام الله وكلام رسوله الله صلى الله عليه وسلم، والوصول بهذه الوسيلة إلى فهم الحق وفقهه.

والأصول العقلية يقصد بها: القواعد العقلانية التي يقرر بها الغيب، من إثبات وجود الله، وإثبات وحدانيته، وإثبات أسمائه وصفاته على التفاوت بينهم، وإثبات البعث، وإثبات بعض مسائل الغيب الأخرى التي يرون أن العقل يثبتها، مع أن هناك أموراً يعترفون أن العقل لا يستطيع أن يثبتها، وإنما العقل جاء بدلالة الشرع مؤيد.

وأقول هذا لأنهم يقولون: إن هذه الأصول العقلية يتوصل بها العقل إلى معرفة الأمور الغيبية وغير الغيبية، ونحن نقول: نعم أهل الكلام حينما جعلوا الأقيسة العقلية، أو الأدلة العقلية، أو البراهين العقلية، أو الوسائل العقلية الأخرى التي تنبني على استعمال الحواس، أو تنبني على استعمال البراهين الرياضية، مثل المعلومة عند البشر، أو استعمال ما يسمى بالاستقراء أو السبر والتقسيم طريقاً يتوصل بها إلى الحقائق، ومن ضمن هذه الحقائق موافقتها للشرع، فهل يعني ذلك أن الشرع متوقف على دلالة العقل، فيكون هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الغيبيات، أو معرفة ما أخفاه الله عز وجل عن العباد على جهة التفصيل، أو الوصول إلى أحكام الحلال كما أراد الله وشرع، أو أحكام الحرام كما أراد الله وشرع؟ إن العقل السليم يدرك وجود الله، ويدرك ضرورة البعث، ويدرك حب الفضائل، وينكر الرذائل، وينكر المنكرات، ويحب العدل ويبغض الظلم إلى آخر المقررات العقلية العامة، لكن إذا تحولت هذه المقررات العقلية العامة إلى شرع باسم أنها تقرر الشرع تحولت إلى المناحي الشخصية للبشر، بتفاوت عقولهم ورغباتهم وطاقاتهم ومناحيهم، ومن هنا يختل الميزان العقلي ما بين إنسان وآخر.

إذاً: نلجأ إلى تشريع الحكيم الخبير سبحانه الذي أقر العقل بأن شرعه هو الأفضل، وأن قوله هو الحق، وأن ما جاء به الوحي هو الحق في الغيب وفي غير الغيب، ولذا فما دام العقل قد أقر على نفسه، فليبق عند قدره، فهو محدود ويفنى، ويعتريه النقص والهوى والنسيان، وتعتريه عوارض وقواطع وموانع لا نهاية لها، لاسيما عندما يتفق العقلاء على أمر يرون أن مصدره العقل، فسيرد عليهم إشكال لا بد منه: وهو عقل من؟ وهل يوجد إنسان عقله يخضع لعقل الآخر؟ إن هؤلاء الرءوس من أهل الكلام الذي يزعم كل واحد منهم أنه هو المرجع، وأنه هو الذي يقرر، وأنه هو الذي يفهم كل شيء، لا يخضع بعضهم لبعض إطلاقاً، بل إن كل واحد يرى أن عقلياته هي التي تقرر الحق، فتشتتوا وتشتت الناس الذين تبعوهم في مناهج أبعدتهم عن الدين، فصارت الفرق والأهواء والبدع والنزعات الكلامية بسبب قولهم: إن الأصول العقلية هي التي تقرر الحق الذي جاء به الشرع، وتقرر الشرع الذي وكل إليه في أمور، مثل: العلوم الطبيعية التي تركت لعقول البشر في أمور دنياهم، فإذا وصلوا لنتيجة علمية صحيحة فهذا من مقررات العقل، لكن أن يتجاوز إلى الغيب الذي ليس في مقدوره، فهذا من الظلم للعقل، وهو الذي نخالف فيه أهل الأهواء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015