القاعدة السابعة: دلالة العقل على كثير مما دل عليه السمع

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [القاعدة السابعة: أن يقال: إن كثيراً مما دل عليه السمع يُعلم بالعقل أيضاً، والقرآن يبيّن ما يستدل به العقل، ويرشد إليه، وينبه عليه، كما ذكر الله ذلك في غير موضع؛ فإنه سبحانه وتعالى بيّن من الآيات الدالة عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وغير ذلك، ما أرشد العباد إليه ودلهم عليه، كما بيّن أيضاً ما دل على نبوة أنبيائه، وما دل على المعاد وإمكانه].

قوله: (إن كثيراً مما دل عليه السمع يُعلم بالعقل أيضاً).

هذه مسألة في الحقيقة مهمة جداً، وهي عبارة مقصودة، وتقريرها يعتبر من الفوارق بين أهل السنة وبين كثير من أهل الأهواء، وهو أنه ليس كل ما دل عليه السمع يُعلم بالعقل، فأهل الأهواء وأهل الكلام خاصة قد يفرحون بمثل هذه العبارة، لكن حينما يقول: إن كثيراً.

فهذا يعني: أنه ليس الكل، بل هناك من تفاصيل الكمال لله عز وجل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ما جاء ذكره في القرآن وصحيح السنة لا يمكن أن يتوصل إليه العقل، ولا ينفرد بمعرفته، كالاستواء على العرش، فلا يمكن أن يقرره العقل على النحو الذي جاء في القرآن والسنة، وكذلك النزول والمجيء، وكثيراً من الصفات الذاتية، كاليد والوجه والعين وغيرها، فهذه كلها لا يتوصل إليها بالعقل، فالعقل يُدرك العلم، والإرادة، والحكمة، وقد يُدرك ما يدل عليه السمع على جهة الإجمال، لكن هل العقل بذاته يُدرك ما دل عليه السمع أو يرده إلى العلم لو لم يرد به النص؟ مع ذلك نقول: إن كثيراً مما دل عليه الوحي -القرآن والسنة- يُعلم بالعقل أيضاً، لكن ليس كله.

والأمر الآخر: أنها على جهة الإجمال لا على جهة التفصيل، يعني: أن العقل يُدرك عموم علم الله عز وجل وقدرته ومشيئته، لكن مسألة الكتابة في أقدار الله هذه لا يدركها العقل، نعم هي جزء من العلم، فكون الله عز وجل كتب مقادير كل شيء هذا داخل في عموم العلم، وهو المرتبة الثانية من مراتب القدر، لكن ليس للعقل إطلاقاً أن يُثبت لنا الكتابة إلا عندما جاء به النص، مع أنه يُدرك عموم العلم الذي من ضمنه الكتابة وهكذا.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فهذه المطالب هي شرعية من جهتين: من جهة أن الشارع أخبر بها، ومن جهة أنه بيّن الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها.

والأمثال المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع].

هذه أقيسة عقلية لتأييد ما ورد به الشرع، وليست أقيسة وأدلة استقلالية، فكل ما جاء من الأدلة العقلية إنما جاء لتأييد ما جاء به الشرع، ولا يعني ذلك الاستهانة بنعمة العقل، فهي نعمة كبرى من الله عز وجل، وهي مناط التكليف، لكن العقل لا يقرر الدين على جهة التفصيل استقلالاً، وإنما يدرك المجملات، وهذه المجملات أيضاً تتفاوت فيها العقول تفاوتاً عظيماً، فلا يظن ظان أن كون القرآن عول على الأدلة العقلية أن القرآن جعل العقل مصدر العقيدة، بل القرآن جعل العقل دليلاً ووسيلة في فهم الوحي والاعتراف له، أما أن يكون هو بذاته حجة على جهة التفصيل فلا، وإنما على جهة الإجمال، ولذلك الله عز وجل خاطب العقول؛ لأنها هي الوسيلة إلى الفهم، وهي الوسيلة إلى تقرير الحق، وحتى قطعيات النصوص لا يمكن فهمها بدون العقل، فلذلك الذي يفقد عقله لا يفهم من النصوص شيئاً ولا من غير النصوص، ومن هنا رفع عنه التكليف، لكن فرق بين أن نقول: العقل نعمة، وأن نقول: إنه وسيلة، وأن نقول: إن العقل يقرر الحق بمجملاته، وأن العقل هو الذي يفهم النص، وبين أن نقول: إنه مصدر! فالمصدر هو الوحي، والمشرع هو الله عز وجل وليس العقل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015