كان علماؤنا يعرفون ضبط الراوي بأمور ثلاثة: الأمر الأول: الاختبار بالقلب، أي: بقلب الأسانيد والمتون، وقصة البخاري وإن تكلم العلماء في سندها مشهورة جداً، وأنهم قلبوا له الأسانيد والمتون فضبطها ورد كل متن إلى إسناده وقد ذكرناها.
وكذا قصة أحمد بن منصور الرمادي فقد كان مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين بعد أن رجعوا من الرحلة إلى عبد الرزاق وسمعوا منه، فقال لهم يحيى بن معين: إني أشتهي الاختبار.
قال أحمد: إلى من؟ قال: لـ أبي نعيم قال: لا تفعل، إن الرجل ثقة أمين، قال: والله إني فاعل، ودق الباب عليه، فلما نظر أبو نعيم إلى أحمد بن حنبل فتح، ولو رأى يحيى بن معين وحده لصك الباب في وجهه، فقد كان شديداً مع يحيى بن معين.
ثم قال لهم: اجلسوا عند الدكان، والدكان المرتبة أو أشبه ما يكون بها، فجلسوا على المرتبة أو الكراسي حتى خرج إليهم.
وقبل أن يخرج قام يحيى بن معين، فأخرج أحاديث أبي نعيم وكتب على رأس كل عشرة أحاديث من أحاديثه حديثاً ليس من أحاديثه، ثم قال: أأملي عليك؟ فقال: اقرأ وكان يقرأ عليه، فأخذ يحيى بن معين يقرأ، وأحمد بن حنبل يسمع، وأبو نعيم الفضل بن دكين يسمع ويقر أن هذه أحاديثه، فلما وصل إلى الحديث المدسوس قال لـ يحيى بن معين: قف واضرب على هذا، فليس من حديثي.
فأتاه بالثانية فوقف عند الحديث المدسوس وقال له: اضرب على هذا فليس من حديثي.
ثم جاء في الثالث فقال يحيى في نفسه: فطن الرجل، وقام أبو نعيم فنظر إليه فقال: هذا ليس من حديثي، وعلم أن المسألة فيها ريب.
فقال: هات الأحاديث، فنظر فيها فوجد هذه الأحاديث المدسوسة، فأخذ الورقة ونظر إلى أحمد فقال: أما أنت فأنت أورع من أن تفعل ذلك، وقال للرمادي: أنت أضعف وأضأل من أن تفعل ذلك؛ لأنه كان تلميذ أبي نعيم.
ثم نظر إلى يحيى بن معين فرفسه في بطنه برجله فأسقطه على الأرض وقال: أنت أجرأ على هذا.
فلما خرجوا وأغلق الباب عليهم، قال أحمد: أما نصحتك وقلت لك: إن الرجل ثقة أمين؟ فقال يحيى بن معين: والله! إن رفسته عندي بألف حديث أو قال: خير من كذا وكذا.
وفي رواية أخرى دخل عليه فقبله بين عينيه، قال: هكذا يكون المحدث، يعني: هكذا نحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بمثلك، فإذاً بالقلب وبالاختبار كانوا يعرفون ضبط الراوي.
الأمر الثاني: بالمذاكرة، فقد كانوا يتذاكرون فيأتي المحدث إلى المحدث فيذاكره، ويمكن أن تحدث الآن كأن يأتي رجل إلى آخر فيتكلم في مسألة فقهية لينظر في الرجل أيعرفها أو لا يعرفها، أو يأتي له بما يعرفه هو في مسألة مصطلح مثلاً، فيتذاكرون حتى يظهر الراجح من المرجوح والمتقن من غيره.
فالمذاكرة كانت دأب الصالحين، فقد كان يفعلها البخاري، وكان يفعلها أبو زرعة، وأحمد، بل وسفيان الثوري ذهب إلى المدينة ودخل على عبد الرحمن بن مهدي فقال سفيان الثوري لـ ابن مهدي: ائتني برجل للمذاكرة.
وهو ما أراد عبد الرحمن فهو يعرف قوته بل قال: أنا أريد أن أثبت الحفظ عندي، فأتني برجل للمذاكرة، فأتى له برجل من الفحولة بمكان، ومن الحفظ بمكان، ومن القوة بمكان حتى كان أحمد بن حنبل يطأطئ رأسه أمامه، وهو يحيى بن سعيد القطان فارس الميدان.
فقام سفيان يذاكر أحاديث الزهري وغيره مع القطان إلى أن انبثق الفجر.
فدخل ابن مهدي على سفيان فقال: كيف وجدت الرجل؟ فتمعر وجه سفيان وغضب غضباً شديداً وقال له: طلبت منك أن تأتيني برجل للمذاكرة وقد أتيتني بشيطان، ويقصد بشيطان أي: شيطان الحفظ فلا تفوته شاردة بحال من الأحوال.
وهذا من قمة التوثيق لـ يحيى بن سعيد القطان، وكانت المذاكرة تأخذ شغاف القلوب، فيعرف الضبط بالمذاكرة كما عرف عند علمائنا.
الأمر الثالث: التلقين، وهو إدخال حديث للرجل ليس بحديثه، وهذه حدثت أيضاً من العلماء، وأشهر المصريين الذي حدث معه ذلك هو عبد الله بن لهيعة فقد اختلفوا فيه؛ لتثبته بالتلقين، فـ ابن لهيعة كان ضابطاً حسناً وهذا الذي غر الشيخ أحمد شاكر ليوثق ابن لهيعة، فـ ابن لهيعة كان ضابطاً حقاً لكتابه وكان ثقة، لكنه اتهم بالتدليس وقد غفل عن هذا كثير من علماء الجرح والتعديل، فهو متهم بالتدليس.
والمقصود أنه لما احترقت عليه الكتب، كانوا يدخلون عليه الأحاديث فيتلقنها، فلما عاتبوه قال: وماذا أفعل؟ يأتوني بالكتاب ويقولون: هذه أحاديثك، فأحدث بها على أنها أحاديثي، فإن صحت هذه الرواية فهذا تلقين فاحش لـ ابن لهيعة يسقط ضبطه.
وأيضاً ممن أدخلوا عليه ثابت البناني فقد أدخل عليه حماد بن سلمة بعض الأحاديث، وقال: أدخلت على ثابت فوجدته صلداً لا يمكن أن يدخل عليه شيء، قال: ثم دخلت على أبان بن أبي عياش فأدخلت عليه فلقنه فتلقن.
وهذا كما قلت: المحدث إذا لقنوه فتلقن، فهذه دلالة أنه ليس بضابط لأحاديثه، لكن إذا انتبه وقال: هذا حديثي وهذا ليس بحديثي، كما قال الزهري: لو رأيت المحدث يتمسك بالخطأ فاعلم أنه حافظ وأنه متقن.
وهذه المقولة تدلنا على أن طالب العلم لابد أن تكون لديه الشخصية المستقلة المهذبة التي تجعله يعتز بعلمه ويتمسك به إذا كان معه دليل، قائلاً: لو قام الناس في الدنيا بأسرها علي ووجدت أن العلم الذي أقول به قال الله وقال الرسول، فلن أنحاز ولن أحيد عنه بحال من الأحوال.
ولذلك قال الزهري: إن رأيت المحدث يتمسك بما قال ويعض عليه بالنواجذ وسواء كان خطأً أو صواباً فاعلم أنه من الإتقان بمكان، أما الذي يتلقن فكلمة تذهب به وكلمة تأتي به وتراه متغيراً في أي وقت، فهذا ليس طالباً للعلم ولا متقناً.