والضبط ضبطان: ضبط صدر وضبط كتابة.
أما ضبط الصدر فهو استيعاب الحديث في الصدر بحيث إذا أراد المرء أن يأتي به أتى به على تمامه، وقد قالوا: حدثنا الزهري فلما راجعناه بعد سنين بالحديث حدث به كما حدث به في أول مرة ما أسقط منه حرفاً واحداً.
وكان الذهبي يقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية: كانت الكتب الستة والمسند أمام عينيه، فإذا جلس يتكلم عن المسألة ينتزع الدليل انتزاعاً، ويستدعي ما يريده من الأحاديث في الكتب الستة والمسند، ابن تيمية فهذا ضبط الصدر.
وقد قال علماؤنا: ما العلم إلا ما دخل به صاحبه الحمام، فلو كان المرء حافظاً لمسائل الأم ودخل الحمام نقول: دخل الحمام والأم في صدره؛ وهذا كانوا يحتاجون إليه قبل التدوين؛ لأن العالم الذي لا يحفظ علمه ليس بضابط، ولن تكون ميزته كميزة الأولين، وقد قيل للشيخ الألباني: رجل يحفظ الكتب الستة والكتب التسعة وغيرها، فقال: ضعه على الرف جانب البخاري فليس الحبر الذي يحفظ كذا، أو يسرد علينا كذا فإنه لن يأتي بغير الأحاديث المكتوبة، لكن أين علمه؟ وأين قلمه؟ ولذلك نحن نقول: كثير من المؤلفين اليوم ظل لرأس، إما جمع أو ترتيب -أو في لغة الكمبيوتر: قص ولصق- لكن أين قلمه؟ وأين تحريره للمسألة؟ وأين ترجيحه؟ وأين قلمه الفقهي أو الحديثي؟ وأين كلامه في الرواة، وهل هذا يحتج به أو لا يحتج به؟ وأين توجيهه وفهمه لكلام العلماء؟ فالعلم ليس بالحفظ فقط، بل هو حفظ وعلم، فكان الحفظ وضبط الصدر مرموقاً جداً قبل التدوين، وبعد التدوين هو يبين علم الرجل وفحولة الرجل.
الضبط الثاني: ضبط الكتاب: وهو أن يكون التلميذ من أهل الكتابة، فيحضر درس الحديث عند المحدثين ويكتب كل حديث يمليه الشيخ، أو يكتب كل حديث قرئ على الشيخ.
لكن لا بد من قيود في ضبط الكتاب، وهي أن هذا الكتاب الذي كتبه التلميذ لابد أن يبين لنا أنه قد نقله من أصل معتمد آخر، يعني: من نسخة الشيخ، حتى يضبط الكتاب الذي كتبه لينسبه لهذا الشيخ.
فمثلاً: مالك هو الذي تبنى مذهب القراءة على الشيخ وليست قراءة الشيخ على التلاميذ، وكان يرى أن القراءة على الشيخ أضبط وأفضل؛ لأن التلميذ لو قرأ ووهم يمكن للشيخ أن يصحح له، لكن لو أن الشيخ هو الذي يملي على التلميذ، فالتلميذ ليس عنده علم فلا يستطيع أن يقول للشيخ: أنت وهمت في كذا.
وهذا يعتريه ما يعتريه، فيمكن أن يكون الشيخ جالساً والذي يقرأ مثلاً أجش الصوت، فينام الشيخ ويقع الإبهام، ويقول الطالب: قرأت على الشيخ هذا الحديث، فيعتريه ما يعتريه.
فالمقصود أن مالكاً كان يقرأ عليه التلميذ، فقرأ على مالك وبجانبه الرجل الذي في المؤخرة يكتب، وبعد أن كتب جاءنا فعقد جلسة التحديث فقال: أحدثكم الآن عن شيخي مالك، قلنا: تحدثنا سماعاً أم قراءة عليه؟ قال: قراءة عليه، فقال: حدثني مالك يقرأ عليه وأنا أكتب، فقلنا له: أنت تكتب؟ قال: نعم، قلنا: لا نأخذ منك حديثاً، قال: لم؟ فهذا ضبط الكتاب وأنتم خالفتم أهل المصطلح، قلنا: لا نأخذ منه حديثاً لأنه جلس في المؤخرة، قال: ولم؟ قلنا: لأنه قد حدثت واقعة مع الإمام مالك بسبب ذلك، فقد كان يجلس مالك مجلس التحديث وطلاب العلم الذين يهتمون ويجدون يجلسون بجانب الشيخ أو أمامه ولا يجلسون في المؤخرة، وكان يعرف في مجالس التحديث في القرون الأولى أن الذي يجلس في المؤخرة صاحب النوم أو الرجل المهمل.
فكان هناك رجل جالس في المؤخرة، وكان دأب علمائنا أن يختبروا طلبة العلم، فكان مالك يقرأ عليهم الحديث ثم يختبرهم في مسألة فإذا قاموا وأجابوا فقال: أخطأتم، فجاء الرجل من المؤخرة وقال: الإجابة كذا يا شيخ! قال مالك: يا بني! قد أصبت وأخطئوا.
ثم تلا عليهم أحاديث أخرى فسألهم سؤالاً ثانياً فأجابوا فأخطئوا، فقال الذي في المؤخرة: الإجابة كذا يا شيخ! فقال: يا بني! قد أصبت وأخطئوا، وامتلأ دهشة، لأن الذي في المؤخرة هو الذي يجيب! فسأل السؤال الثالث فأجابوا فأخطئوا، فجاء صاحب المؤخرة فقال له الإجابة سديدة وصحيحة، قال: يا بني! ليس هذا مقامك، فأنت لا تستحق أن تكون في المؤخرة، تعال فاجلس هنا، فأجلسه في المقدمة أمام عينيه، وهو يتلو الأحاديث فأراد أن يختبره مرة ثانية، فاختبرهم بسؤال، فقاموا يجيبون قال: لا، أجب أنت، فأجاب إجابة خاطئة وأجابوا إجابة صواباً، فقال: يمكن ترتيب المكان هو الذي عمل في الرجل هذا.
سأله سؤالاً ثانياً فلم يجد إلا إجابة خاطئة فقال له: يا بني! ما حالك؟ وما بالك؟ أسألك وأنت في المؤخرة فتجيب وهنا لا تجيب، فقال: الصراحة يا شيخ! ما كنت أنا المجيب، المجيب هذا الرجل الذي في المؤخرة، وكان الشافعي يجلس بجانبه فيلقنه فيجيب الرجل الإجابة السديدة.
فلما رأى مالك أن الشافعي هو الذي يجيب قام من على كرسيه قيام الشيخ لتلميذه الذي علمه وقال له: أنت المؤهل الآن وتتصدر، فقام يضرب مثلاً لكل شيخ علم تلميذاً ألا يخفض حقه وألا يبخس حقه ويصغره؛ لأن بخس الحقوق يدخل في قول الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1].
وأيضاً هو مخالف لقول عائشة رضي الله عنها: (أمرنا أن ننزل الناس منازلهم).
فقام مالك فعانق الشافعي وأخذه وأبى عليه إلا أن يجلس مجلسه، فأجلسه مجلسه وجلس يطرح عليه الأحاديث.
فلما ذكرناه بالواقعة، قال: نعم، لست بضابط لكتابه، فلم يقرأ عليه، لكن جاء الآخر يقرأ الكتاب فقلنا له: ضبطتها من النسخة الأصلية؟ قال: نعم، ضبطتها من نسخة أخرى معتمدة؟ قال: نعم، قلنا له: تجلس في المقدمة أم في المؤخرة، قال: أنا صاحب المقدمة، قلنا: إذاً نسمع منك، فأنت ضابط ضبط كتاب.
إذاً الضبط ضبط ضبطان: ضبط صدر، وضبط كتاب.