قوله: (كأنك غريب) جميعنا يعلم أن الغربة تقتضي وطناً، وأن الغريب موجود وقت الغربة في غير وطنه، فإذا كنا غرباء في هذه الدنيا فأين موطننا الأول؟ وإذا كنا غرباء فإن كل غريب يحن إلى موطنه الأصلي، ويقطع أمله في مجتمع هو فيه غريب، فلا يعزم منه على تشييد القصور، ولا على غرس الأشجار، وكل غريب في بلد يسلك طريق السلامة، وقلّ أن يأنس إلى الناس، وكل غريب في بلد يلزم الأدب والاحتياط في غربته.
والعوام يقولون: (يا غريب كن أديب) ، فالغريب عابر سبيل في رحلته، ولابد له من غاية يقصدها، ويحب أن يصل إليها.
إذاً: الغريب وعابر السبيل متلازمان، فكل غريب عابر سبيل، وكل عابر سبيل غريب، إلا أن عابر السبيل أخف، فلو تأملنا في الإنسان من بداية أمر هذا العالم: فما هي بدايته؟ نحن لا ننسى أن أبانا وأمنا آدم وحواء كان مسكنهما الأول الجنة كما قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] .
إذاً: مسكن الإنسان الأول هو الجنة، ومنذ أن خرج منها فهو في غربة، ولذا يقول العلماء: فترة الحياة مرحلة عابر السبيل، وسبقتها مراحل: المرحلة الأولى: تناقل الإنسان في أصلاب آبائه حتى جاء إلى الرحم، وفي الآية الكريمة: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] ؛ فالذرية كلها من الأصلاب بالتسلسل إلى يوم القيامة: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] .
إذاً: عالم الذر والنطف تتناقل في الأصلاب في مراحل خفية، لا نحكم عليها ولا نتحكم فيها، ولا دخل لنا فيها.
المرحلة الثانية: مرحلة التكوين المادي، وهي فترة الحمل في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، ظلمة المشيمة، ظلمة الرحم، والمولى سبحانه يودعه في: {قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:21-23] ، ثم يخرج إلى الدنيا: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، وبعد تلك المرحلة يخرج من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، وهي رحلة التزود بما أمره الله، وهي مرحلة الابتلاء: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] ، فكيفما تزودت في هذه المرحلة فهو زادك في طريقك، وهو مآلك، ومن يزرع الشوك لا يحصد إلا شوكاً، ومن يزرع الورد يجني الورد، فما تزرعه في الدنيا هو زادك إلى الآخرة.
وقد ذكرنا رحلة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه إلى الفسطاط في مصر؛ لطلب سماع حديث، فلما وصل سأل عن الصحابي الذي عنده الحديث، فقال: دلوني على بيته، فذهب إلى البيت، وطرق الباب، وكلم الخادم فأخبر سيده، وجاء الصحابي فوجد أبا أيوب صاحب رسول الله على الباب، فقال: أبو أيوب! ما الذي جاء بك؟ قال: جئت أسمع منك حديثاً سمعته أنا وأنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق أحد سمعه إلا أنا وأنت فخشيت أن أنساه، فذكر له الحديث، فإذا به يركب راحلته، ويلوي عنانه، ويرجع إلى الحجاز، وأمامه مغريات الحياة، وقد وصف الله الحجاز بوادي غير ذي زرع، رجل أبو أيوب إلى أرض تجري أنهارها، وتتنوع ثمارها، فلم يغره شيء من ذلك؛ لأنه كان غريباً عابر سبيل، جاء لمهمة وغاية يقصدها.
وأنت -أيها الإنسان- في هذه الدنيا غريب وعابر سبيل لغاية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، ولمهمة: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] ، فلينظر الإنسان ماذا فعل في رحلته وغربته، فهو لا يدري متى يرحل؟ ولا يدري متى يناديه داعي الموت؟ ولا يدري متى تنتهي المهمة؟ ولكن الخطر كل الخطر في الأمل، وورد أن بعض العلماء قال لأحد العارفين بالله: ما هو أملك؟ فقال: وأي أمل لمن نَفَسُهُ في يد غيره؟! فهل تملك أنت أن توقف هذا التنفس الذي تتنفسه؟ وإذا أوقفه الله هل تستطيع أن تجريه؟ لا.
{َ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] .
ولهذا ابن عمر لما سمع هذا التوجيه وتصور حقيقة المعنى قال: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح) ، وأعتقد أننا لا نستطيع أن نوفي هذا الحديث قدره، إلا إذا تذوقنا حلاوة الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة؛ لأنه لا يمكن أبداً أن يتحقق لإنسان زهد في دنياه إلا إذا تحقق عنده الرغبة في آخرته؛ لأن الدنيا والآخرة ضرتان، ولا يمكن أن تصلح بينهما أبداً، إذا أرضيت إحدى الضرتين فعلى حساب الأخرى، فاختر من ترضي ومن تسترضي، وكن في الدنيا كأنك غريب، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما بنى المسجد قال: (عريش كعريش أخي موسى، والأمر أقرب من ذلك) .
يا سبحان الله! رسول الله جاء لدعوة، وتكوين أمة، ودولة ورسالة تعم العالم، ويقول: (والأمر أقرب من ذلك) أي: أعجل.
ولو نظرنا إلى تاريخه صلى الله عليه وسلم من أول البعثة، ثم من أول الهجرة، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.
كيف كانت حياته صلى الله عليه وسلم؟ حقاً لقد كان كالغريب أو عابر سبيل، فما ركن إليها يوماً، ولا أنس بها يوماً، وكان في كثير من الأوقات، في غزوات، والمولى سبحانه وتعالى يهيئ له أموراً عجيبة، خرج من مكة، ثم دارت المعارك، وجاءت الحديبية، ويأتي الصلح بوضع الحرب، وبالهدنة عشر سنوات، لكن لم يبق من عمره صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، فيجعل الله سبحانه سبباً نقض قريش للمعاهدة من أجل فتح مكة بعد سنتين!! فنقضوا عهدهم، وفتحت مكة، وجاء عام الوفود، وبعدها حجة الوداع، فكان صلى الله عليه وسلم عابر سبيل، وكانت حياته لغاية يحققها ومهمة يقصدها.
ولما نزلت السورة الكريمة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1-3] بكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
وابن عباس رضي الله عنه قال: لقد نعى ربنا إلينا رسول الله وهو حي بين أظهرنا، فقال له عمر: وكيف أخذت ذلك؟ فقال: لقد أرسله الله برسالة يبلغها للناس، فإذا أتم الرسالة وقام بالبلاغ، وأدى الأمانة، وأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فما الذي بقي من مهمته؟ وكما يقول بعض العلماء: إذا كان لك عبد أرسلته إلى بلدة ليقضي لك حاجة، فيجب أن يسرع في طريقه ويقضي الحاجة ويسرع في العودة، أما إذا مكث فيها وركن إليها فلك أن تعاقبه.
وابن مسعود يقول: (بيّن لنا صلى الله عليه وسلم حياة الإنسان وأمله، فخط لنا خطاً دائراً) .
وبعض العلماء يرسمه مربعاً، وخط خطاً داخل هذه الدائرة، والخط الذي ينصف الدائرة هو قطب الدائرة، والقطب ينتهي عند محيط الدائرة، وكل جزء من النقطة يسمى وتر، فمحيط الدائرة الخط الذي يصل طرفي المحيط أو يتصل بنقطتين من المحيط، وخط صلى الله عليه وسلم خطاً زائداً عن الدائرة.
إذاً: هي دائرة فيها قطر، وأحد طرفي القطر خارج عن حد الدائرة، وخط خطوطاً جانبية، وقال صلى الله عليه وسلم عن محيط الدائرة: (هذا أجل الإنسان، وتلك الخطوط الجانبية ما ينتابه في حياته، وهذا الجزء الزائد عن الدائرة هو الأمل، فينقضي الأجل قبل أن ينتهي أمله) .
يقولون: من سائل الإيضاح في علم التربية أن يأتي المدرس بالصورة ويشرح عليها الدرس، وها هو صلى الله عليه وسلم يبين لنا ذلك بأجلى معاني الإيضاح، فأجلك محدود في دائرة تدور فيها يميناً ويساراً، وأملك يسبقك عن دائرة الأجل، أنت تريد أن تبلغ الأمل، ولكن يأتي دونه الأجل.