في هذه الصورة ملاطفة ومؤانسة منه صلى الله عليه وسلم لمن يريد أن يحدثه، ومثل ذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي في كفه) ، أخذ كف ابن مسعود وجعلها في كفه وهو يعلمه.
وهذا الحديث الذي جاء عن ابن عمر وجاء أيضاً عن ابن عباس فعن مجاهد رحمه الله أنه رُؤي حزيناً، فقيل له: مالك حزين؟! قال: تذكرت قول عبد الله، -يعني ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بكفي بين كفيه وقال: يا عبد الله! كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل) ، ومجاهد وعطاء بن أبي رباح من كبار أصحاب ابن عباس الذين أخذوا عنه العلم والتفسير، وقامت بهم مدرسة مكة.
إذاً: رواية مجاهد عن ابن عباس توازي رواية ابن مسعود رضي الله تعالى عن الجميع في كيفية معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومن قبل هذا معاملة المعلم الأكبر الرسول الكريم جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمر بن الخطاب: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه) .
يقول العلماء: (على فخذيه) الضمير راجع لجبريل عليه السلام وهو في صورة رجل، أو للنبي صلى الله عليه وسلم، ومهما يكن فإنهم يقولون: إن هذه الصورة من دواعي تثبيت العلم عند السامع، ويقول علماء التربية: إن ربط المعاني بالمحسوس يثبتها، مثلاً: الطلاب أيام الامتحانات لهم مذكرات شخصية، وصور تمر بهم، إذا جاء -مثلاً- إلى المسجد النبوي ومعه كتاب الحديث، أو ذهب إلى النزهة ومعه كتاب الأدب، أو ذهب إلى مكان كذا ومعه كتاب الفقه، فإذا جاء وقت الاختبار تذكر أنه حينما كان في المسجد كان يقرأ في الحديث، وتذكر الصورة المحسوسة حيث كان يجلس، وكان معه فلان وفلان، فالصورة تعيد له الذاكرة، وتجمع له حسه فيما كان يذاكره، وهناك جماعة كانوا يسمون (المشائين) ؛ لأنهم كانوا يدرسون العلم وهم يمشون، فيتذكرون أنهم في المكان الفلاني قرءوا كذا، وعند الشجرة الفلانية تذاكروا كذا، فتكون المعالم المحسوسة كالضوابط أو كالمنبهات أو كالعلامات مناراً في طريق الإنسان في علمه.
وهنا ابن مسعود رضي الله تعالى عنه حينما يتذكر وضع يده بين كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لن ينسى ما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً، وكذلك ابن عمر حينما يتذكر أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبه لن ينسى أبداً ما قيل له في تلك الحالة، وهكذا عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وبعد هذه التهيئة، أو بعد هذا التنبيه، أو بعد إيقاظ الشعور والتطلع إلى ما سيقال بعد هذه اللمسة، يقول صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله) ، وكلاهما اسمه عبد الله: عبد الله بن عمر، عبد الله بن عباس: (كن في الدنيا) ، والدنيا تأنيث الأدنى، وهي الحياة، والأخرى: هي الآخرة، ومعنى هذه الموعظة، وهذا التنبيه والإرشاد: وجودك في الدنيا ليس حالة المقيم الجالس المستوطن الذي لن يرحل، بل حالك حال الغريب وعابر سبيل: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) يقول بعض العلماء: (أو) بمعنى (بل) وكأنها إضرابٌ عما تقدم، أي: بل كن كعابر السبيل، وتحتمل أن (أو) هنا للتنويع، وهو الظاهر عندي.