إذاً: جاء في الأثر (الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، والرغبة في الدنيا وطول الأمل يحزن القلب ويشقي الجسم، وليس معنى الزهد في الدنيا تركها، ولكن أن تجمعها من حلها، وأن تضعها في حلها، لا كما يقولون: تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد والجوانب والمعاني في هذا الحديث فوق أن يحصيها إنسان: (كن في الدنيا كأنك غريب) ، وأنت فعلاً غريب، وكما قالوا: الإنسان في الدنيا ساعته تهدم يومه، ويومه يهدم أسبوعه، وأسبوعه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان بل أقل من الثواني.
والعجيب! أن الإنسان يستطيع أن يقف عند الغنى والفقر، وعند القوة والضعف، وعند العزة والذلة، وعند كل معاني الحياة، لكنه لا يستطيع أن يقف عند الحياة والموت، قال سبحانه: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83-87] .
ارجعوها وأوقفوها عن الخروج! أمدوه بلحظة واحدة! لا والله! لو اجتمع العالم كله، إنسه وجنه وملائكته على أن يمحنوا الإنسان في اللحظات الأخيرة ثوانٍ لا يستطيعون، وانظر الإعجاز القرآني: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعة} [الأعراف:34] ما قال: (يستقدمون) ، قال: (لايستأخرون ساعة) ، وما هي ساعة زمنية ستون دقيقة، لا، بل ساعة لغوية، وقدم (لا يستأخرون) ؛ لأن كل إنسان يود أن يتأخر: {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ، ولو أراد أن يعجل موته لحظة لا يستطيع؛ لأن هذا ليس له.
والغريب في حياته يعمل لما ينجيه أو يسلمه من أهل المدينة التي حل فيها.
وعابر السبيل ماذا يحمل معه؟ هل يجمع الحطب والحجر، والخشب والحديد ويحملها معه؟! لا يحمل معه إلا الزاد الذي يوصله.
عابر السبيل قبل كل شيء يطلب الراحلة التي توصله، ويكتفي في زاده بما يكفي في سفره، فلو رأى أمامه مئات الأطنان من الفاكهة والعسل واللبن وجميع أصناف الطعام ما أخذ منها إلا ما يوصله.
ولذا السلف كانوا كما قال الشاعر: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا وهكذا حال المسلم، وكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج الإنسان من الدنيا تبعه ثلاثة: ورجع منها اثنان، وبقي معه واحد، تبعه أهله وماله وعمله) فأهله يشيعونه، يكون منه ما يتبعه، فيرجع المال والأهل ويبقى معه العمل.
وجاء في الأثر: (ما من إنسان يخرج من الدنيا إلا وهو آسف حزين، إن كان محسناً يقول: يا ليتني استزدت، وإن كان مسيئاً يقول: ليتني أقلعت) ، وما هي الغاية من جمع الدنيا والتكالب عليها؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (من أصبح معافىً في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) ، ولا يدرك هذا إلا العقلاء، وكل إنسان مهما كان رصيده وماله، وممتلكاته، فلن يأكل الورق ولا الذهب ولا الفضة، وكم ستأكل من الطيبات؟ ما عندك خزان أكبر من بطنك، ومستودعات الطعام قبل أن تأكله لا تدري من سيأكل المستودع، لكن أنت ستأكل على قدر نفسك، (ابن آدم يقول: مالي مالي، وليس له من ماله إلا ما لبس فأبلى، أو أكل فأفنى، أو تصدق فأبقى) .
إذا تصدق الإنسان أبقى كما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، أنه ذبح عندها شاة، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! انتهت الشاة وقسمناها ولم يبق إلا رجلها، فقال: لقد بقيت كلها إلا رجلها) هي تقول: نفدت كلها ولم يبق منها إلا رجلها، فيقول صلى الله عليه وسلم: (بل بقيت كلها إلا الرجل هذه) ؛ لأن الذي وزع قرض حسن عند الله، وهي وديعة، وأمانة ينميها المولى سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] .