وللذكر آداب عديدة، ويهمنا موضع الحديث (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله) ، يقول ابن رجب في هذا الحديث: الحديث نص على اجتماع قوم يذكرون الله في المساجد.
وهنا يأتي خلاف العلماء في نوع الذكر المقصود، فالحديث فيه: (يتلون كتاب الله ويتدارسونه) ، فيقول: إن حملنا الذكر على خصوص التلاوة والمدارسة، بمعنى الفقه والعلم بكتاب الله، فهذا لا إشكال عليه، ولذا كان بعض السلف إذا صلوا الصبح اجتمعوا وقرأوا كتاب الله، وتدارسوه فيما بينهم، وتعلموا الفرائض، والفرائض من كتاب الله.
وإن كان المراد عموم التلاوة فقط فعلى أية صفة؟ ويذكر أن أهل دمشق وحمص ومكة كانوا إذا صلوا الصبح اجتمعوا لقراءة القرآن، إلا أن أهل دمشق وحمص يجتمع النفر منهم ويقرأون جميعاً في وقت واحد من سورة واحدة، ولكن أهل مكة كانوا يجتمعون فالشخص الواحد يقرأ العشر الآيات والبقية يسمعون، ثم يقرأ الآخر عشر آيات والبقية يسمعون، وقال: وهذا لا بأس به.
واستدل بعمومات، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يسمع القرآن من ابن مسعود، وكذلك عمر كان ربما يأمر الرجل يقرأ، ويسمع هو وأصحابه، واستمعوا إلى أبي موسى الأشعري، وكان عمر يقول له: اقرأ ونحن نسمع.
وقد يستدل لذلك بعموم قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] ، وبعض العلماء يقول: هذه خاصة في الصلاة، وبعضهم يقول: هي أعم من ذلك كله.
والذي يهمنا أن قراءة قارئ وسماع المستمعين لا غبار عليه، ولكن كونهم يجتمعون ويقرأون جميعاً فإن ابن رجب قال في شرح هذا الكتاب المبارك: بلغ ذلك مالك بن أنس، وتكلم مع رجل من أهل الشام فقال: أنتم تجتمعون لكذا وكذا! فقال: نعم.
قال: أما نحن فكان عندنا المهاجرون والأنصار، وما كانوا يفعلون ذلك، وكان الواحد منهم إذا صلى الغداة جلس يذكر الله ويسبحه، ولا يكلم بعضهم بعضاً اشتغالاً بالذكر.
ومن هنا اختلفوا في جواز اجتماع القوم ليقرأوا القرآن بصوت واحد في موضع واحد، أي: أن نأخذ المصحف ونقرأ مثلاً قوله تعالى: {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] في نفس واحد، أو أن الكل يصغي ويستمع وينصت ورجل واحد يقرأ ونحن نتأمل القراءة ونستمع إليه.
يقول ابن رجب في هذه الصورة: لا بأس بها للعمومات الواردة من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يسمع القرآن من غيره، وعمر كان يأمر غيره فيقرأ وهم يستمعون.
أما أن يقرأوا جميعاً، فيحصل اللغط من بعضهم على بعض فهذه هي الصورة التي يقول عنها مالك: إن اجتماعهم لذلك في المسجد بدعة.
وعلى كلٍ فالحديث معنا فيه: (يتلون كتاب الله ويتدارسونه) ، وهل التلاوة التي كان يفعلها أهل مكة وحمص والشام كانت تلاوة فقط، أم تلاوة مع مدارسة؟ فإن كان مع التلاوة مدارسة وفهم القرآن، وعلم التفسير وما يتعلق بذلك فالحمد لله، وبها ونعمت، وإن كانت تلاوة فقط فكما قال ابن رجب: الصورة الجماعية هذه هي المكروهة، وصورة كون شخص واحد يقرأ والبقية يسمعون داخل في عموم الذكر، وفي سماع النبي صلى الله عليه وسلم من غيره.
فهذا الحديث متعلق بالقرآن تلاوة ومدارسة، وأما إذا جلس يستغفر الله، أو جلس يسبح الله، أو جلس يحمد الله، أو جلس يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو جلس لأي نوع من أنواع الذكر فيما بينه وبين الله فلا مانع من ذلك، وقد جاء الحديث: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة، تامة) .
وجاء عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا صلى الغداة ينتظر إلى طلوع الشمس، فإن عرض له عارض كتجديد الوضوء يترك رداءه، ويقوم ويقول: انتظروا مجيئي فسمعه بعض الناس فقالوا: من تكلم؟ فليس عندك أحد؟ قال: أكلم جلسائي فالملائكة تحف ذاكري الله.
وجاء في الحديث الآخر: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض فإذا وجدوا أقواما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى بغيتكم فيجيئون فيحفون بهم إلى سماء الدنيا) .
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر) ، وليس معنى (حلق الذكر) الصور المعهودة عند بعض الناس التي استحدثت، إنما هي الواردة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاجتماع الملائكة أو بحثهم عن رياض الجنة -وهي مجالس الذكر- وارد في السنة، وقد ألّف العلماء الكتب في ترتيب وآداب ونصوص الذكر الوارد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.