قال صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) .
ذكر في الحديث (في بيت من بيوت الله) ، وبيوت الله العرف خص بها المساجد، وهذه إضافة تشريف وتكريم، وإلا فالعالم كله لله، وكما جاء في القرآن الكريم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] ، وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] ، فهذه البيوت المضافة إلى الله إنما هي المساجد، وهي إضافة تكريم وتشريف، كما في قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13] ، وكل الإبل والنوق في العالم لله، وهو الذي خلقها، ولكن هذه بالذات أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى لتميزها بآية خاصة، وكذلك المساجد تميزت عن بقية البيوت، بيوت الملوك والأمراء والفقراء والأغنياء، وفي حديث الأعرابي حينما ترك ناقته خارجاً ودخل، ثم أخذ جانباً في المسجد، وجلس يريق بوله فزجره الصحابة الكرام قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه، دعوه) ، فلما قضى بوله أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ثم دعاه: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن) ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدعا الأعرابي وقال: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً) ؛ لأنه وجد الرحمة، ووجد التيسير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد الشدة من الآخرين.
والأصوليون يقولون: إذا وقع الخطأ يُنظر فيه ويرتكب أخف الضررين، وهذا ما حصل في حديث الأعرابي، وذكر الله هو كل ما يعرف الإنسان بربه ويصله به.
فقوله: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله) ، جاء في بعض الروايات بلفظ: (في المسجد) ، وفي بعضها الآخر: (في مجلس يذكرون الله) ، فالعبرة هنا بعموم الذكر، وأشرنا إلى أن ذكر الله أعم عمومات العبادات، فهو ليس في حق الإنسان، ولا في حق الحيوان، بل ولا في حق الشجر والمدر، فالذكر عبادة جميع الكائنات، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] .
فالحصى في كفه صلى الله عليه وسلم سبح، والجذع الذي كان يتكئ عليه للخطبة حينما تحول إلى المنبر حن لفراقه وبكى، ونزل إليه صلى الله عليه وسلم وخاطبه قائلاً: (إن شئت غرست في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت، وإن شئت غرستك في الجنة) ، فاختار أن يغرس في الجنة، فهو جذع خشب يؤمن بأن هناك جنة.
وفي الموطأ في يوم الجمعة وفضله ورد: (وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة) .
فالدواب تعلم أن هناك ساعة، وتعرف أنها ستكون يوم الجمعة، وتعرف أنها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس، ونحن ما كنا نعرف هذا.
فأهم ما يكون على العبد ذكر الله، وقد قالوا: هو غذاء القلب، وهو للإنسان كالماء للسمك، فالشخص الذي يغفل عن ذكر الله كالسمك إذا أخرجته من الماء، ولذا جاء الذكر في جميع التكاليف.
فحينما تأوي إلى فراشك للنوم فإن السنة تأتيك، وتقول لك: اضطجع على شقك الأيمن وقل: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، اللهم إن أمسكت روحي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها) .
وإذا استيقظت من نومك في الليل ذكرت الله.
وإذا استيقظت في الصباح تقول: (اللهم بك أصبحنا وبك نمسي) .
فإذا جئت إلى الصلاة، ذكرت الله في سجودك، وذكرت الله قبل سلامك، وذكرت الله بعد الصلاة.
وإذا رجعت إلى بيتك وتناولت طعامك تقول: باسم الله.
شبعت من طعامك تقول: الحمد لله.
فذكر الله في كل صغيرة وكبيرة.
وفي الصيام يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن (للصائم فرحتين، فرحة عند فطره، وفرحة وعند لقاء ربه) ، وله دعاء مستجاب، وكذلك إخراج الزكاة، وكذلك في الحج، فالحج كله ذكر لله.
وكذلك إذا لبست ثيابك، أو خلعت نعلك، وفي كل أحوالك.
ولذا يمتدح الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] ، وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] ، ويأتي أيضاً بخواص الذكر فيقول تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] .
فالذكر من حيث هو عام، وأخص ما يكون إذا ذكر منفرداً خالياً بقلب خاشع.
فالسبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله يبدأون بإمام عدل، وينتهون بقوله: (ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه) ، فاضت عيناه رغبة أو رهبة.