هناك نقطة جوهرية في الحديث، وهي موضع افتراق الطرق بين الناس، في قوله صلى الله عليه وسلم: (التقوى ها هنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا) ، ويشير إلى صدره الكريم ثلاث مرات.
وبهدوء وبرفق نقف عند هذه الإشارة إلى التقوى في الصدر، والصدر فيه القلب، فإذا نظرت إلى سياق الحديث (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا) ، وجئنا إلى تصحيح ذاك الخطأ في التعامل، فالمسلم أخو المسلم، ولا يحق له أن يحسده، ولا أن ينجش عليه، ولا أن يبغضه، ولا أن يلقاه مدبراً عنه؛ لأنه أخوه، والمسلم لا يظلم أخاه، والمسلم لا يكذب على أخيه، والمسلم لا يحقر أخاه.
ويحقر الإنسان الإنسان لأنه صغر في عينه، فإما أن يكون فقير المال، وإما أن يكون نحيل الجسم، وإما أن يكون دنيء المنزلة، وغيرها من عوامل الدنيا التي يقيس بها الناس، فإذا كان فقيراً أو كان ضعيفاً أو لا منزلة له ولا حسب ولا نسب سقط من أعين بعض الناس.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يضع لنا قاعدة، بل قضية منطقية، فلماذا يحقر بعضكم بعضاً؟ أللفقر، أم لضعف الجسم، أم لعدم فصاحة القول؟ فهذه مقاييس فاسدة، وهذا مقياس باطل، لقد جاء القرآن الكريم وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، فمقياس الكرم، ومقياس الرفعة، ومقياس المنزلة العالية عند الله التقوى.
فمقاييس الناس عند الله بالتقوى، وكرم الناس عند الله بالتقوى، وهذا تصحيح للمفاهيم الخاطئة؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يعدون أكرمهم أرفعهم حسباً، وأغناهم، وأقواهم، وتصحيح الشريعة للمفاهيم الخاطئة في قضايا عدة، ومنها حديث: (ليس الشديد بالصرعة) ، فنحن نعرف الشخص القوي فينا أنه الذي يصرع الآخرين، فهذا هو المقياس عندنا.
فجاء الإسلام وصحح هذه الناحية، وقال: تلك قوة حيوانية، فهذا الشخص الذي يصرع اثنين الثور أقوى منه، وأقوى من أربعة من مثله، وكذا الحمار يحمل أكثر منه، فهي قوة بهيمية، ثم بين الشدة فقال: (إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) ، وليس في الحيوانات من يقدر على ذلك، وهذا خاص بالإنسان.
فصحح وعدل مقياس القوة في البشر بأنها قوة نفس، وقوة أخلاق، وقوة ضبط لأعصاب عند الغضب.
وفي تصحيح مقياس آخر يقول: (أتدرون من المفلس؟) ، أي من هو في نظركم ومقاييسكم المفلس؟ قالوا: المفلس فينا -يا رسول الله- من ليس له درهم ولا دينار ولا متاع.
أي ليس لديه فلس، وهذا مقياس عند كل الناس.
قال: (المفلس من أمتي يوم القيامة من يأتي بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرح عليه، ثم طرح في النار) .
فمن كان يخطر على باله هذا الإفلاس.
كالحال في الدنيا، كرجل عنده الملايين، ولكن أخذ من هذا وضيَّع، وأخذ من هذا وضيَّع، وأخذ من ذا ومن ذا، فجاء أصحاب الحقوق يطالبون بحقوقهم، حينها الحاكم يحجر عليه، ويبيع أملاكه ويوزعها على الغرماء، فكان ذا مال ورصيد في البنك ومن الغد أصبح صفر اليدين، لكن في الدنيا يمكن أن يعمل ويبدأ من جديد، فيقترض أو يعطف عليه الناس ويتصدقون عليه، لكن يوم القيامة لا يستطيع، فهذا من تصحيح المقاييس.
وهنا في الدنيا تحقر أخاك؛ لأنه لا مال له، وتعظم غيره؛ لأنه صاحب مال! فتحقر هذا؛ لأنه ضعيف نحيل، وتكرم ذاك؛ لأنه ذو جسد وجسم مهيب! وتحقر هذا؛ لأنه عيي لا يتكلم، وتعظم ذاك؛ لأنه فصيح خطيب بليغ! وتلك المقاييس المادية خاطئة وباطلة، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، وبالتقوى تكون الكرامة، والتقوى في الصدر، فلا تعلم حقيقة الشخص أمامك، ولا يمكن أن تحكم عليه بمظهره؛ لأن حقيقة الحكم عليه بالتقوى، والتقوى ليست أمراً ظاهراً، ولذا جاء في الأمثلة العملية منه صلى الله عليه وسلم أنه كان صلى الله عليه وسلم جالساً، فمر رجل ذو هيئة، فقال صلى الله عليه وسلم لرجل عنده جالس: (ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا -والله- حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا) .
فأنت قد تمتدح شخصاً لمنظر العين والأمر المادي المحسوس، وغيره إن خطب من عندك فلن تزوجه، وإن شفع عندك لا تقبل شفاعته، وإذا تكلم لا تسمع لكلامه، وتتركه، لكن هذا عند الله خير من ملء الأرض من ذاك، فهل المفاضلة بالشكل أم بما وقر في القلب؟