قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يحقره) .
هنا -كما يقولون- محط الرحل، وعود على بدء، فأول الحديث (لا تحاسدوا) ، وأشرنا إلى أن سبب الحسد بين الناس هو الكبر من جهة والاحتقار من جهة أخرى، أي: احتقار صاحب النعمة واستكثارها عليه، كأنه ما يستحقها.
فالله أنعم عليه بالعافية، أو بالأخلاق، أو بمال، وأكثر ما يكون الحسد بين الناس على المال الزائد، أما الأدب والأخلاق والديانة فما يُحسد عليها، ويحسدون على الشيء الفاني العاجل.
فمنشأ حسد الشخص للآخر أن يحتقره أمام تلك النعمة عليه، وأول خطيئة في الخليقة حسد إبليس لآدم، والحسد يجر إلى الكبر، والكبر يجر إلى العصيان، والعصيان -عياذاً بالله- يطرد من رحمة الله.
وهناك مسألة أسميها فلسفة المعصية؛ فإننا وجدنا آدم قد عصى ربه ونسي، وإبليس عصى ربه وامتنع، فكلاهما وقعت منه المعصية، ولكن معصية آدم كانت أن الله سبحانه وتعالى نهى آدم أن يأكل من الشجرة فأكل، وإبليس أمره الله أن يسجد لآدم مع الملائكة فامتنع، فكلاهما وقع في معصية.
ولكن بالنظر إلى تحليل -ولا نقول: فلسفة- المعصية والدافع لها نجد أن آدم عليه السلام حينما أكل من الشجرة ما جاء بطواعية وإصرار، فقال: ما علي من هذا النهي، فأنا آكل على ما أريد، وإنما أتاه الشيطان وما زال يغريه، كما قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:21-22] ، وكذلك قال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] ، وهما لا يريدان شيئاً غير الخلود في الجنة، فجاءهما من الطريق الذي يرغبان فيه، (وَقَاسَمَهُمَا) أي: حلف وأقسم لهما أنه ناصح، وهو كاذب، فزلت بهما القدم.
لكن لما عرف آدم أنه أخطأ تاب إلى الله، كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] ، فتلقى الكلمات ورجع وأناب إلى ربه لأن معصيته لم تكن عن سبق إصرار، بل كانت عن جهالة ونسيان وخطأ.
ولكن إبليس أول ما رأى خلقة آدم جعل يطوف حوله ويضحك، وأخيراً قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] ، فمعصية إبليس كانت عن سبق إصرار وتكبر واحتقار لآدم، فهناك فرق بين المعصيتين، فكانت نتيجة معصية إبليس اللعن والطرد عياذاً بالله، ونتيجة معصية آدم أنه أناب إلى ربه فتاب إليه فاجتباه وهدى، وتلقى كلمات من ربه وتاب عليه.
وعوداً على بدء، ففي أول الحديث (لا تحاسدوا) ، فإذا سلم الإنسان من أن يحقر أخاه لن يحسده، وكل ما يراه من نعمة الله على أخيه يقول: (يستحق) و: (زاده الله) ؛ لأنه في نظره كبير، وليس في نظره حقيراً، فلا يقارن بين النعمة وبين هذه الشخصية إلا بالمعادلة الكريمة، فكلما أعطاه الله نعمة عظُم في عينه، لا أن يحقره على ذلك.
وفي مسألة الكذب يقول بعض العلماء: هناك مواطن قد يحسن فيها الكذب -ولكن لا نريد أن نتوسع فيها- ومن ذلك إذا كان الإنسان يسعى بالصلح بين متخاصمين لإصلاح ذات البين، ولكنه كذب ممدوح، بمعنى أنه علم أن اثنين متخاصمان، فيأتي إلى الأول ويعاتبه على خصومته لأخيه، ويخبره أن صاحبه نادم على ما يقول، وأنه يتمنى لقاءه، مع أنه ما سمع منه شيئاً، فهذا يبدي أيضاً رغبة في اللقاء، فيذهب إلى الآخر.
ويقول نفس الشيء، فيبدي رغبة في اللقاء، فيأخذ وعداً من كل منهما ويتلاقيان على المصافحة، وعلى الصفح، وعلى التلاقي والأخوة، فهذا لا بأس به.