يقول صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يلظلمه ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره ... ) فنهى عن الكذب عليه بقوله: (ولا يكذبه) ، فمن أعظم الخيانة أن تحدث الرجل بالحديث يظنك صادقاً وأنت كاذب.
فليس هناك خسيسة أردأ من الكذب؛ لأن الإنسان ما عنده حبل يقاد ويربط به إلا الكلمة التي يقولها، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء:34] ، فالوفاء يكون بالعهد وبالعقود، فتقول الكلمة وتلتزم بها، وقد جاء في قصة أبي سفيان حينما قدم الشام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل الكتب للملوك، فسأله هرقل أسئلة كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان ما استطاع أن يكذب، فكان يحاول أن ينقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند هرقل، ولكن بغير كذب، فلم يجد إلا شيئاً واحد أراد أن يغمز به، وحين سأله: أيغدر بكم إذا عاهد؟ قال: لا.
وبيننا وبينه عهد ولنا منه فترة لا نعلم ما حدث فيها.
أي: لا نعلم في الفترة هذه ما الذي حصل.
وأراد أن يدخل شيئاً آخر فقال: ألا أخبرك بما يدل على أنه كاذب؟ قال: ما هو؟ قال: أخبرنا أنه في ليلة جاء من المسجد الحرام إلى مسجدكم هذا وصلى فيه ورجع في ليلته، ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهراً ذهاباً وشهراً عودة.
فهذه التي أراد أن يدخل منها، فإذا ببطريق على رأسه يقول: نعم لقد علمت بتلك الليلة.
فالتفت إليه هرقل فقال: وما أعلمك بها؟ قال: كنت لا أنام حتى أغلق أبواب المسجد، وفي ذات يوم جئت إلى باب عجز البوابون عن إغلاقه، فدعوني فجئت، فدعوت أهل النجارة فنظروا فإذا السجاف قد نزل على الباب، فقالوا: لا نستطيع أن نحرك فيه شيئاً، فدعه إلى الغد حتى يطلع النهار، فتركناه مفتوحاً، ولما جئت في الصبح وجدت الباب يفتح ويقفل، ووجدت الصخرة التي عند الباب مخروقة وفيها أثر ربط دابة، فقلت والله ما أمسك بابنا هذه الليلة إلا لنبي، وقد جاءه وصلى فيه.
فلما خرجوا من عند هرقل -وكانت جماعته معه- قالوا: يا أبا سفيان! أنت بين يدي هرقل، وما منعك أن تكذب على محمد كذبة تنزل من شأنه عنده؟ قال: خشيت أن يأخذ علي كذبة فلا يصدقني بعد ذلك.
فهو رجل مشرك يحتاط لنفسه أن يكذب كذبة فتسقط كلمته.
فإذا كان أبو سفيان وهو مشرك، مع هرقل وهو مسيحي، ومروءة أبي سفيان وهو على شركه تأبى عليه أن يكذب فكيف بالمسلم.