قال صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخواناً) .
قوله صلى الله عليه وسلم: (وكونوا) يوجه فيه إلى الناس الكينونة، كأنهم باستطاعتهم أن يصبحوا إخواناً، وهل هذا على ظاهره في هذا المقام؟ إذا رجعنا إلى القرآن الكريم نجد أن أخوة المسلمين فيما بينهم لها أصلان: أصلٌ منحة وهبة من الله تعالى، وأصل أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه.
أما الأصل هو الذي هو هبة من الله فإنه سبحانه يذَّكر عباده ويمتن عليهم به فيقول: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] .
وهي نعمة الإسلام، فلقد رأينا في مطلع فجر الإسلام الأجناس المختلفة من الأقطار المتباعدة تتآخي تحت ظل دوحة الإسلام، فها هو صلى الله عليه وسلم في مكة يأتيه صهيب الرومي، ويأتيه بلال الحبشي، وفي المدينة يأتيه سلمان الفارسي، وكل أولئك إخوة في الله الذي جمع العرب مع العجم.
يقول الشاعر: أبي الإسلام لا أب لي سواه إن افتخروا بقيس أو تميم فحينما اختلف سلمان المهاجرون والأنصار في غزوة الخندق كان المهاجرون يقولون: سلمان منا، جاء مهاجراً من بلاد فارس.
والأنصار يقولون: سلمان منا كان موجوداً حين قدم علينا رسول الله، فهو فارسي يتنافس فيه المهاجرون والأنصار، ويقضي فيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (سلمان منا أهل البيت) ، ولم يكن هاشمياً أو قرشياً فكان من آل البيت أعلى قمة نسب في العالم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فأنا خيار من خيار) ، وذلك بالإيمان، قال تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] .
تلك الأخوة كانت أقوى وأعز من أخوة النسب والدم، حتى إنهم كانوا يتوارثون بها، وظهرت آثارها عملياً في ثلاثة مواطن يعجز خطيب أو كاتب أو شاعر أو أديب أو معبر بأي أسلوب أن يصور حقيقة المعنى.
ففي غزوة أحد سنة ثلاث من الهجرة يأتي المشركون وكان فيهم ابن أبي بكر الصديق، ولم يكن أسلم بعد، ونظام القتال أوله المبارزة، فيخرج الابن ويقول: من يبارز؟ فينهض أبو بكر ليبارز ولده، فيمسكه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أبق على نفسك يا أبا بكر، فهذا أب يبارز ابنه، فهو قاتل أو مقتول، فإن قَتل قَتل مَن؟ وإن قُتل قُتل بيد من؟ فهما مصيبتان.
فـ أبو بكر إذا قتل قتل بيد ولده، فذلك أشد على نفسه من أن يقتل على يد أبي جهل أو غيره.
وفي غزوة المريسيع حدث أن غلاماً لـ عمر وغلاماً لأنصاري ازدحما عند الماء فضرب غلام عمر غلام عبد الله بن أُبي أو الأنصاري، فصاح أحدهما: ياللمهاجرين، وصاح الآخر: ياللأنصار؟ ودبت فيهم نحوه سابقة، فبلغت تلك المقالة عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين فقال: أو قالوها؟! ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمن كلبك يأكلك، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
فبلغت المقالة رسول الله فشغل الناس بالسير في القيلولة حتى وصل باب المدينة، وهناك أنكر مقالته التي قالها واعتذر وكذب الخبر، وجاء الوحي وكذبه، قال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] ، فأتى عبد الله بن أبي إلى أبيه عند أبواب المدينة واستل سيفه وأمسك زمام ناقة أبيه، وقال: والله لن تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلم أنك أنت الأذل وأن العزة لله ولرسوله.
ويقولون: كان من أبر الشباب بأبيه.
فأين ذهبت الرابطة النسبية؟ وأين ذهبت الأبوة والبنوة والبر؟ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ، وقال تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، فتلك الأخوة التي هي نعمة من الله أقوى تلاحماً وترابطاً من البنوة والأبوة في النسب.
فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر عبد الله مع أبيه أرسل إليه أن: دعه يدخل.
فدخل بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد فترة تنافل الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيقتل ابن أبي، فيأتي ولده ويقول: يا رسول الله! سمعت أنك تريد قتل فلان -وما قال أبي، فإن كنت فاعلاً لا محالة فمرني آتيك برأسه؛ إني لأخشى أن تأمر غيري فيقتله، فلا أستطيع أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، فأقتله فأهلك؛ لأني قتلت مسلماً بكافر.
فانظر إلى أي حد بلغ هذا، فهو مستعد أن يتولى قتل أبيه حرصاً على المسلمين؛ لأنه -من باب الحمية- لا يقوى على أن يرى قاتل أبيه، ولو كان أبوه كافراً وقاتله مسلماً، فيندفع وراء تلك الغريزة فيقتل قاتل أبيه، وبما أن قاتل أبيه مسلم، فحينئذٍ يكون قد قتل مسلماً بكافر، وهذه مصيبة لا يرضاها، بل هي الهلاك فقوله تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، هو العنصر العملي الذي كلفنا به من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سورة الحجرات قوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12] ، وقال تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] ، وإذا أخذت من أول السورة بعد آدابها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد الإصلاح بين الطوائف المسلمين في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائفَتَان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9-10] .
والآية تزيل عوامل البغضاء والقتل، بداية من سوء الظن بأخيك، ثم الانتقال إلى عدم التجسس وراءه، ثم الانتقال إلى ألاَّ تتبع التجسس بالغيبة، إلى آخر ما أتى في السورة.
ومما يهمنا هنا فعله صلى الله عليه وسلم في غرس المحبة، حيث يقول: (لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا) ، فالجنة لا يدخل فيها إلا المتحابون، أما المتباغضون فليس لهم محل؛ لأن الجنة لا تصلح للتباغض، وهي أطهر من أن تسع متباغضين، والمولى سبحانه -كما جاء في الأحاديث- في بعض ليالي السنة المفضلة يطلع على أهل الأرض فيغفر لهم جميعاً إلا المتخاصمَين، فيقول: (أرجئوهما حتى يصطلحا) ، فكيف نتباغض؟ وكيف نكون متباغضين في الجنة؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ -فهي وسيلة المحبة التي يمكن أن تكتسبوها أنتم- أفشوا السلام بينكم) ، وجاء الحديث الآخر: (تهادوا تحابوا) ، والهدية تسل الضغينة من الصدر، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى أن تتعاطف مع أخيك أن تبدأه بالسلام، وأن تبادله الهدايا، وجاء الحديث الصحيح: (حق المسلم على المسلم ست) ، فإذا أديت حق أخيك وأدى حقك، عندها تكونان متحابين، وهذه الخصال الست هي قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) .
فإذا لقيته سلم عليه وقل: (السلام عليكم) ، وإن دعاك لوليمة فأجبه، وإذا طلب منك النصح فانصح له، وإن غاب عنك أو مرض فعده، وإذا قضى نحبه ومات فشيعه.
فإذا وفى كل إنسان حق أخيه عليه كان الناس عباد الله إخواناً.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخوانا) ، قد يقول قائل: على أي شيء هذه الأخوة؟ فيقال: مبدأ الإسلام المؤاخاة، فالمسلم -حقيقة- أخو المسلم، ولا يقال: كيف يكونان أخوين وأحدهما عربي والآخر عجمي، وهذا من الشرق وهذا من الغرب، فمن أين جاءت الأخوة؟ فأخوة النسب لا كسب لك فيها، فأخوك شقيقك لا تستطيع أن تلغي أخوته، وهي مفروضة عليك شئت أم أبيت، ولكن الأخوة التي لك هي أن تتخذ كل من قال: (لا إله إلا الله) أخاً، وهذه الكلمة هي النسب الأعلى، فالمسلم أخو المسلم، سواءٌ أكان إخباراً بالواقع أم أمراً في صورة الإخبار، كما قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة:233] ، فهو إخبار بالإرضاع، أو تكليف بأن يرضعن.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم) ، ومقتضى تلك الأخوة ليس ادعاءً، وليس -كما يقول بعض الناس- إشارة في إثبات الهوية أو في جواز السفر، فليس الإسلام بالبطاقة كما يعبر بعض الناس، وإنما هو عمل، وما دام المسلم أخا المسلم فمقتضى الأخوة وثمنها ألا يظلمه، فظلمك أخاك عجب، وإذا ظلمت أخاك فمن ستنصف؟ ولذلك قال: (لا يظلمه) ، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يخذله) وفرق بين الظلم والخذلان، فالظلم: أن يصدر منك ما يؤذيه، والخذلان: أن تترك غيرك يظلمه وأنت تنظر، وهذا ليس من صفة المسلم، ولا من مقتضيات الإخاء، فالأخ حقيقة هو الذي يناصر أخاه، وقد جاء في الأثر: (ما من امرئ مسلم يخذل امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من حقه وينتهك فيه عرضه إلا خذله الله في موطن يجب فيه نصرته ... ) فيأتيك وقت تحتاج فيه إلى النصرة فلا تجد؛ لأنك فرطت في نصرة أخيك.
وجاء في الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.
فقال رجل: يا رسول! الله أنصره إذا كان مظلو