قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يكذبه) .
يقولون: يكفي الإنسان دناءة أن يحدث إنساناً بحديث يظنه صادقاً فيه والمتحدث يعلم كذبه، وأعتقد أن هذا منتهى ما يمكن أن ينزل إليه الإنسان، فشخص يأتمنك ويأخذ كلامك مأخذ الصدق كيف يسوغ لك أن تكذب عليه؟ وإذا أخذنا بهذه فقط -أي: (لا يكذبه) - وعملنا بها صلح المجتمع كله.
فعند الحسد لا تحسده، والناجش يقال له: إذا كنت تسوم سوماً صحيحاً فافعل، وإلا فلا تناجش، ولا تبغض أخاك.
ففي المعاملات، وفي المواعيد، وفي العهود، وفي كل ما يمكن في حياة الإنسان إذا استمسك الجميع بقوله (لا يكذبه) كان الجميع على صفاء وعلى صراط مستقيم.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يحقره) ، وهذا عود على بدء، وهذا من أساليب القرآن الكريم والسنة النبوية، فإنه إذا طال المقام يعاد للتذكير بما تقدم.
ففي سورة البقرة يقول تعالى في أولها: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:2-3] ، وفي آخر سورة البقرة يقول تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ،فبدأت السورة بالإيمان، وانتهت ورجعت إلى الإيمان.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يكذبه) ، سلم الجميع.
(ولا يحقره) ، يرجع إلى أول شيء وهو الحسد، وسبب الحسد أنك احتقرت الإنسان على ما أعطاه الله من نعم، فاستكثرتها عليه، ولو أنك لم تحتقره لما استكثرت النعمة عليه.
ولو كان شخصاً كبيراً وعظيماً ذا شأن لاستقللت النعمة عليه، ولقلت: هو يحتاج إلى زيادة، لكن احتقرته بالنسبة لما أعطاه الله؛ لأن منشأ الحسد أن تحقر المحسود، ثم تتكبر وتتعاظم عليه.
ومن هنا كانت نتائج تلك الأخوة بين المتآخيين قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يظلمه) ، فالإنسان لا يظلم نفسه، فكذلك لا يظلم أخاه.
ومن فضائل تلك الأخوة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأنها من دواعي ومن أسباب إكرام الله للمتآخين يوم القيامة بأن يظلهم تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله) وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) .
ومن العجيب أيضاً أن تلك الأخوة في الله تصحب هؤلاء المتآخين إلى الجنة بكل رحابة صدر وسلامة، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] ، والأخوة في الله لا يستطيع إنسان أن يعطيه حقها، ويترتب على ذلك -كما أشرنا- ألا يظلمه، وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) .
فقال: (يا عبادي!) ولم يقل (يا مسلمون) أو: (يا مؤمنون) .
فالله سبحانه وتعالى حرم الظلم على العباد ولو كانوا كافرين، ولا ينبغي للإنسان أن يظلم غيره، بل يقول العلماء: لا تظلم أحداً ولو حيواناً، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن المرأة البغي التي سقت الكلب لما اشتد به العطش، فشكر الله لها فغفر الله لها ذنوبها.
ولما سأل الصحابة رضي الله تعالى عنهم: (يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر) ، ولا يجوز أن تحمل الدابة فوق طاقتها.
فالظلم ممنوع، وكما جاء في الحديث: (الظلم ظلمات يوم القيامة) ، ولو كان المظلوم كافراً فأنت مخطئ، فقد جاء في الحديث: (واتق ودعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) .
والمشركون كانوا إذا جاءتهم الشدائد والعواصف في البحر وغيره يدعون الله وحده، كما جاء في قصة عكرمة لما هرب عام الفتح وركب في السفينة وهاج بهم البحر، فقال ربان السفينة: أيها الناس! سلوا الله وحده أن ينجيكم، والله لا ينجي من هذه إلا الله فقال عكرمة: إذا كان لا ينجي في البحر إلا الله فلا ينجي في البر إلا الله، لئن أنجيتني -يا رب- من هذه لآتين محمداً فأضع يدي في يده.
فهو هارب من الإسلام، وهارب من قول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] ، والمشركون يقولون -كما حكى الله تعالى عنهم-: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ، فلمّا علم أنه ليس هناك عند الشدة إلا الله، قال: نرجع إليه وحده.
وحصين لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء) ، ومع هذا الكفر يحرم الله تعالى ظلمهم.
فإذا كان هذا مع الحيوان ومع الكافر فكيف بالإنسان المسلم، وله عليك أخوة الإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يظلمه ولا يخذله) ، وخذلانه أن تراه في موقف يذل فيه، وتستطيع أن ترفع عنه الذلة وتتركه.
ولذلك يقولون: زكاة الجاه كزكاة المال، فزكاة الجاه والمنصب أن تتدخل لنصرة أخيك المسلم إذا استطعت أن تنصره، فلا تسلمه لعدوه، ولا تخذله حينما يستنصر بك وأنت قادر على نصرته؛ لأنه من حق الأخوة، وإذا تركته يُخذل وأنت ترى بعينك فإنه أيضاً سيتركك إذا أوذيت، فتقف معه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.