يقول المالكية: ما كل دعوى تسمع على كل من ادعي عليه، مثال ذلك: لو كان في وقت الموسم شخص مقيم في المدينة، فإذا رجل من خارج المملكة قال له: تعال! لي عندك عشرة آلاف ريال، وهذا المدعي حاج، وعمره ما جاء إلى المدينة من قبل، ولا سافر إلى الهند أو إلى مصر أو إلى أي بلد، فالقاضي إذا عرضت عليه هذه القضية قال للمدعي: بينتك، قال: ما عندي بينة، هل حالاً يقول للمدعى عليه: احلف أنه ليس له عندك عشرة آلاف ريال؟ لا، بل يفكر أولاً: ما هي الرابطة والمناسبة التي ربطت بينهما في عشرة آلاف؟ وليس مجرد ما ادعى نسمع منه.
لو أن إنساناً يريد أن يؤذي رجلاً مستقيماً في خلقه وفي أمانته، مستغن في ماله، ما عرف عنه الحِيَل ولا النصب، ولا يقترض من الناس، ومعروف للجميع أنه من علية القوم استقامةً وديانةً ودنيا، فلو جاء إنسان وقال: أنا أدعي على فلان الشيخ الكبير الفلاني أو الأمير الفلاني عشرة آلاف ريال، فنقول له: لماذا أعطيته؟ قال: قرضة حسنة أحتاجها وأعطيته إياها، فنقول له: خذها منه، قال: هو أنكرني، فهل بمجرد هذه الدعوى نأتي بالشيخ الفاضل ونقول له: احلف يا فلان؟! ربما هو يريد أن يحرجه ليعرض عليه اليمين فيفتدي عن يمينه بشيء، وهذا الذي يريده المدعي.
ليس كل من ادعى دعوى تسمع منه، ولكن إن وقع للقاضي ما يدل على ذلك فلا مانع أن يحلف كبير القوم، وقد اختصم أُبي بن كعب مع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في جذاذ نخل، كل يدعيها له، فقال أُبي: إنك أمير المؤمنين، قال: لا، ولكن اختر من نحتكم إليه، قال: زيد بن ثابت، فذهبا إلى زيد بن ثابت، فسلما عليه، فرد عليهما السلام، وقال: ها هنا يا أمير المؤمنين؟! فقال: لا ما جئتك أميراً للمؤمنين، إنما جئتك متحاكماً مع خصمي، قال: إذاً: اجلس مع خصمك، ما دعواك يا أُبي؟ قال: جذاذ نخيل لي عنده، قال: ألك بينة عليه؟ قال: لا، ولكن أطلب يمينه، أُبي يطلب اليمين من عمر، فـ زيد تأخذه العاطفة -وهذا ضعف في القضاء- فقال: أو تعفي أمير المؤمنين من اليمين؟ فصاح به عمر: ويحك -يا زيد - أكل الناس تعفيهم من اليمين أم قلت: عمر أمير المؤمنين، وتطلب أن نعفيه؟ لماذا لا يحلف عمر إذا كان صادقاً؟ قال: أتحلف؟ قال: نعم أحلف، فحلف أن النخل له، وليس لـ أُبي، فصرف القاضي دعوى أُبي لعدم إثباته دعواه، وعدم إقامة البينة، وليمين المدعى عليه، فخرج عمر مع أُبي، وعند باب البيت استوقفه عمر وقال: هل انتهت القضية؟ قال: نعم، قال: ألك عندي شيء؟ قال: لا، ليس لي عندك شيء، قال: النخل لك هديةً مني، فقيل لـ عمر: ولماذا لم تفعل ذلك قبل اليمين؟ قال: مخافة أن يتخذها الناس سنة، ويقولون: عمر لا يحلف، ولكن إن كان محقاً فليحلف وليستحق، وإن كان غير محق ونكل فليحكم عليه.
بينما عثمان رضي الله تعالى عنه اُدعي عليه مبلغ تسعة آلاف، ادعاها المقداد، فقال عثمان: هي سبعة آلاف، قال: أتحلف أنها سبعة، وأترك الألفين؟ قال: لا، احلف أنت أنها تسعة، وأعطيك التسعة، وهذا يسمى في نظام القضاء: (رد اليمين على المدعي) ، فإذا رد المدعى عليه اليمين على المدعي، وحلف بمقتضى طلب المدعى عليه، أخذ بذلك القاضي، وإن كان بعض العلماء ردوا ذلك، فحلف المدعي أنها تسعة، فأعطاه تسعة آلاف، فقيل لـ عثمان: عرض عليك اليمين وأنت متأكد أنها سبعة، فلماذا ترد عليه اليمين وتعطيه المال؟ قال: نعم خشيت أن أحلف، فيأتي قدر من الله في أمر ما، فيقول عوام الناس: هذا لأنه حلف كاذباً فجاءه ذلك، يعني: افتدي يمينه بأن ردها على المدعي.
وكذلك عبد الله بن عمر باع غلاماً، فجاء المشتري وادعى بأن فيه عيباً كتمه عنه ابن عمر، فقال ابن عمر: ما علمت أن فيه عيباً، ولا كتمت عنك، وكان القاضي عثمان فقال: لك بينة على أن العيب كان موجوداً عند البيع وأخفاه عليك؟ قال: ما عندي بينة، لكن يحلف، فقال ابن عمر: قل له: يقبل العبد على ما هو عليه وإلا رده عليَّ وأخذ ماله، فرده عليه ورد عليه ماله، وبعد سنة باعه بزيادة قدر نصف القيمة زيادة على ما كان عليه.
إذاً: بعض الناس قد يحلف، وبعض الناس قد يترك، لكن المبدأ الأساسي أن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر.