هناك مسألتان جاءتا على خلاف الأصل، وهما، اللعان، والقسامة في القتل.
واللعان هو: أن الرجل يقذف زوجته -عياذاً بالله- بشخص أجنبي، فالحكم أنه إن أنكرت المرأة يتلاعنا، فيقسم هو أربع مرات أنها زنت، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وهو المدعي عليها، ويدرأ عنها العذاب أن تقسم أربع مرات.
إلخ.
إذاً: في قضية اللعان بدأ المدعي بالأيمان، فلماذا لا يأتي بالبينة؟ من باب الستر جعل الله سبحانه وتعالى إثبات حد الزنا بأربعة شهود، ولكن كما قال سعد: أتركه، وأذهب آتي بأربعة شهود، ويكون قد قضى حاجته منها؟! لئن رأيته والله! لأضربنه بالسيف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني) .
وكما يقال: لا يوجد في الإسلام طريق مسدود، فلولا اللعان لكان كل امرأة أدخلت بيت زوجها من شاءت وقالت: ما عنده بينة، فجعل الله مخرجاً للزوج بالأيمان.
إذا جئنا إلى الزوجين، رجل يجاهر ويصرخ بأنه وجد زوجه على كذا، من يستطيع أن يخبر بهذا الخبر دون أن يكون واقعاً؟ إذاً: ضخامة الجريمة أنطقته أمام الناس، وجعلته يفضح نفسه وأهله، فكان لوثاً قوي جانبه في ادعائه، ويحتمل أن يكون صادقاً، فالأيمان دائماً في جانب الأقوى من الطرفين، وهي يدرأ عنها العذاب بالأيمان.
وكذلك القسامة، فإنها تثبت مع اللوث، فإذا كان هناك قبيلتان متعاديتان، فوجدت أحد القبيلتين بين بيوت القبيلة الثانية قتيلاً منهم، فجاء أولياء القتيل وقالوا: تلك القبيلة التي تعادينا هم الذين قتلوه، فكلامهم فيه رائحة القوة بسبب العداوة التي بينهم، لكن إذا لم تكن هناك عداوة ولا خصومة ولا شيء، فما الذي يأتي بالتهمة على هؤلاء؟ فيمكن أن يكون هناك جماعة قتلوه ووضعوه عند هؤلاء الناس، وأنتم تعلمون قضية قتيل بني إسرائيل، وكانت المدينة مقسومة قسمين، وكان رجل له بنت، فطلب ابن أخيه من عمه أن يزوجه ابنته فامتنع؛ لأن له مالاً، والخاطب فقير، فماذا فعل الولد؟ قتل عمه ليأخذ ماله، ويتزوج ابنته، ثم حمله إلى جانب القرية من الجهة الثانية، ثم أصبح من الغد يشتكي إلى نبي الله موسى: هؤلاء قتلوا عمي! اخرج لي قاتل عمي، واقتص لي منه! فقالوا: والله! ما قتلناه ولا علمنا بقتله، فقال الله لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] ثم ذبحوا البقرة وقال: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73] ، (كذلك) فيه إشارة إلى أمر مطوي في القصة (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) ، فضربوه فأحياه الله، وأخبرهم من قتله، وقال: قتلني ولد أخي! فمثل هذا الإحياء الذي شاهدتم وعاينتم كذلك يحي الله الموتى.
إذا كان هناك لوث فمدعي الدم له حق أن يبدأ بالقسامة كما جاء في قضية حويصة ومحيصة في خيبر.
إذاً: اليمين في جانب من هو أقوى في الدعوى، وتفاصيل ذلك في كتب الفقه في باب القضاء.
ولكن يهمنا في هذا الباب اليمين، واليمين شهادة، وحينما جاء المدعي وادعى بأنه أعطى فلاناً ألفاً مثلاً، وأنكر المدعى عليه أن يكون أخذ شيئاً، وجاء المدعي بشاهدين، وقالا: نشهد أنه أعطاه، ماذا يفعل القاضي؟ يتحتم عليه أن يحكم عليه بمقتضى الشهادة، فيحكم القاضي بشهادة رجلين، مع أنه يمكن أن يكونوا كاذبين، فإذا أعوز المدعي حضور الشهود فهل يضيع الحق؟ لا، بل يأتي باليمين، وما معنى اليمين؟ يقول للقاضي: أنا يعوزني الشهود، ما كان عندنا أحد، ولكن رب العزة شاهد، ويقال للمدعى عليه: أتشهد الله بمعنى: تحلف بالله بأن دعوى خصمك كاذبة، وأنك لم تأخذ منه شيئاً؟ فحينما يقوم المدعى عليه ويقول: أحلف بالله! إنه لكاذب في دعواه، فمن الذي يكون حقاً حاكماً وشاهداً في تلك القضية؟ إنه الله؛ لأن معنى اليمين، أن المدعى عليه يقول: أشهد الله الذي لا تخفى عليه خافية، والذي يعلم صدق المدعي أو كذبه، ويعلم صدقي أو كذبي، فإنه عالم مطلع أنه ليس له عندي شيء، فالذي يصير خصماً للمدعى عليه بعد هذا اليمين هو الله، ومن هنا نعلم معنى الحديث الصحيح: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، وما علاقة الشرك بالحلف بالله؟ لأنك عندما تحلف بغير الله كأنك تعطي غير الله بعض صفات الله، إذا حلفت بنبي بملك بصالح بأي شخص، فكأنك أعطيت المحلوف به صفة العلم والاطلاع والقدرة على الانتقام، وهذه لا تكون إلا لله، ولهذا يقول ابن مسعود: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ من أن أحلف بغير الله صادقاً) لأن الكاذب يعلم بأنه كاذب، وربما يرجع فيستغفر، لا أن يصل إلى حد الشرك، وربما يأتي يستسمح من المدعي، وربما يأتي ويقر ويعترف، وربما خاف من القضاء والسجن وذهب في الخفاء إلى صاحبه وأعطاه الحق، كل ذلك ممكن.
إذاً: اليمين معناها: إقامة الله سبحانه شاهداً على رد الدعوى، فإن كان صادقاً فالحمد لله، وإن كان كاذباً فالله هو خصيمه.
ولهذا لو تتقصى أحوال الناس، وتتتبع الذين يقسمون بالله كذباً -وهذه هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار- تجد أن الله يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولعل الكثيرين يسمعون أخباراً في ذلك، ولا يقتصر الأمر على يوم القيامة.
ومن قضايا اليمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل اليمين على المنبر هنا في المسجد النبوي بعد العصر إذا كانت قضيةً كبيرة، مثلاً في مبالغ كثيرة أو دعوى لها خطرها، فيشرع أن يقسم المدعى عليه بالله بعد العصر عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيماً لليمين، وتنبيهاً للمدعى عليه.