فيقول معاذ: (وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟!) ، كأن معاذاً لم يكن يعرف إجابة هذا السؤال وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ) ؛ لكن فات عليه أنه يؤاخذ بما يتكلم به.
إذاً: لا غرابة أن تفوت بعض الأحكام على بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرفها الآخرون، أو لا يعرفونها ويسألون عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت نماذج عديدة من ذلك، ويستدل ابن رجب وابن القيم وغيرهما بهذا الحديث على أن كثيراً من آحاد الأحكام قد تخفى على بعض الصحابة ثم تتبين لهم بعد ذلك بأن لم يكونوا سمعوا فيها خبراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يجتهدون في المسألة ويوفقون إلى طبق ما جاء فيه النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكنا نشير إلى نماذج من تلك النماذج ما وقع بين عمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب، كل هؤلاء في المسجد النبوي الشريف اختلف رجلان في هذا المسجد إذا وطئ الرجل زوجته ولم ينزل هل عليه غسل أم لا؟ فقال عثمان: لا غسل عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) وقال الآخر: عليه غسل، فقال عمر لـ علي: ما تقول أنت يا علي في هذه؟ مسألة في كل البيوت وتخفى عليهم، فيقول علي: علام تسألني وتسأل غيري، وبجوارك أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن، إرسل إليهن فسلهن.
فيرسل عمر رضي الله تعالى عنه إلى أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فتقول سلوا عائشة فإنها أعلم بذلك مني.
ويسألونها فتقول: كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويغتسل، وقالت: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس بين شعبها ثم جهدها فقد وجب الغسل) ، وقالت: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل) .
وجاء الخبر إلى عمر فقال: لا أسمح أحداً يقول: لا غسل، إلا جعلته مثلاً لغيره، فقال ابن كعب على رسلك يا أمير المؤمنين! كنا في بادئ الأمر لا نغتسل إلا من الماء -نزول المني-، ثم عُزِم علينا فيما بعد، يعني أن الذي قال: لا غسل عليه، أخذ بما كان في أول الأمر، والذي قال: عليه الغسل، أخذ بما كان في آخر الأمر، وصاحب المقالة الأولى لم يبلغه الحديث الثاني.
وأيضاً: فقد جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال: يا ابن عباس ما لي أرى الناس اختلفوا في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لم يحج إلا مرة واحدة، قال: وفيم ذلك يا بن أخي؟ قال: بعضهم يقول: أهلّ في مصلاه قبل أن ينصرف، وهناك من يقول: أهلّ حينما ركب راحلته، وهناك من يقول: أهلّ حينما صعد البيداء، ولا أدري من أين أهلّ، قال: يا ابن أخي! أنا أخبرك.
أما الذي قال إنه أهل في مصلاه فقد سمع هو ذلك ولم يسمعه غيره، وأما الذي قال إنه أهل حينما استقلت به راحلته فقد سمع ذلك ولم يسمع ما قبله، وأما الذي قال إنه أهلّ حينما استوى على البيداء فقد سمع ذلك ولم يسمع ما قبله، وكلٌ أخبر بما سمع، والكل صادق.
فهذه مسائل قد تخفى، ومما وقع لـ عمر رضي الله تعالى عنه حينما ذهب إلى الشام، وفي طريقه بلغه أن الطاعون وقع بالشام في عمواس، فوقف هل يدخل على الطاعون ومعه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، أو يرجع عما كان يريد، فاستشار الناس فاختلفوا عليه، يقول ابن عباس: قال لي عمر: ادع من كان هنا من المهاجرين، فجاءوا فسألهم فاختلفوا عليه، فبعضهم يقول: لا تدخل، وبعضهم قال: توكل على الله وادخل، فقال: انفضوا عني، ادع لي من كان هنا من الأنصار، واختلفوا عليه أيضاً، وأخيراً قال: ادع لي مشيخة قريش، فجاءوا فلم يختلف عليه واحد منهم، وقالوا: يا أمير المؤمنين جئت بوجوه القوم وخيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معك، فلا نرى أن تدخل بهم على الطاعون ونرى أن ترجع، فنادى في القوم: إني مصبح على ظهر.
فلما سمع القوم المنادي ينادي، سمع عبد الرحمن بن عوف ولم يكن حاضراً تلك المشاورات، قال: ما الأمر؟ فأخبروه بما كان، فقال: عندي في ذلك علم عن رسول الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) ، فكبر عمر رضي الله تعالى عنه وحمد الله أنه وافق رأيه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذاً جاءنا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءنا خبر عن صحابي من أصحاب رسول الله يخالف هذا الحديث، فلا يكون ذلك طعناً في الصحابي، ولا يكون طعناً في الحديث يضعفه، ولكن نقول: هذا الحديث رواه صحابي آخر سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الصحابي الجليل الذي لم يوافق ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمع بهذا الحديث، ولو سمع لكان أسبق الناس إليه.
وعلى هذا يحترم العلماء آراء الصحابة والتابعين، ويلتمسون الأعذار لمن لم تبلغه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونخطو خطوة أخرى إلى الأئمة الأربعة، ونقول لطلبة العلم، ونؤكد عليهم أن يرجعوا ويقرءوا كتاب الإمام ابن تيمية رحمه الله: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ، حيث ذكر فيه أسباب الخلاف وجعلها عشرة، ومنها ألا يبلغه الحديث فيكون معذوراً، أو يبلغه ولكن لم يصح سنده عنده، وقد يصح عند غيره، وقد يبلغه ويصح سنده لكن يتعارض مع ما هو أقوى منه عنده، وقد يبلغه ويصح سنده ولا يتعارض عنده ولكن يختلف في فهمه مع الآخرين.
إذاً: كل هذا من الأعذار التي تكون سبباً في اختلاف الأئمة رحمهم الله في بعض المسائل، وليس ذلك عيباً، وليس ذلك نقصاً، وليس ذلك من باب الفرقة فيما بينهم.
وهذا معاذ رضي الله تعالى عنه وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعرف الأمة بالحلال وبالحرام، ومع ذلك لا يعلم بأن الإنسان مؤاخذ بكل ما تكلم به، مع أن في هذه القضية قرآناً يتلى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، الرقيب العتيد يحصي عليه ما يقول ليحاسب بمقتضاه، لا أنه يكتب ولا محاسبة! فالشخص العادي لا يفعل هذا صاحب الدكان يأخذ دفتراً ويقيد كل صغيرة وكبيرة حتى يعمل حسابه إذاً: رقيب وعتيد هذا كله يدل على أن كل ما يتلفظ به الإنسان أنه يكتب، ولا يكتب إلا للازم الفائدة وهو المحاسبة عليها.