بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلا زلنا في حديث معاذ الذي جاء فيه: (قلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] ، حتى بلغ: {يَعْمَلُونَ} [السجدة:19] ، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا، قلت: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم) .
هذا الحديث الطويل الذي بيّن أصول الإسلام، وبيّن الأركان والنوافل وأبواب الخير المتعددة، وشبه فيه الإسلام بالرأس للجسد، والصلاة بالعمود للبيت، والجهاد بالسنام.
ثم بعد ذلك يقول صلوات الله وسلامه عليه: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) ، ملاك ذلك وامتلاك ذلك: هو الشيء الذي يجمع أطراف الشيء، تقول: امتلكت البيت بأي شيءٍ امتلكته؟ بزمامه، بصكه، بمفتاحه.
فملاك الأمر: قوامه الذي به تجتمع أطرافه كلها، وهنا يقول معاذ: (بلى يا رسول الله) ، فيأتي صلى الله عليه وسلم إلى اللسان ويشير إلى لسان نفسه، ويقول: (كف عليك هذا) ، وكما يقول البلاغيون وعلماء النحو: اسم الإشارة يعين مسماه، أي: للتعيين والتحديد، وكما يقول علماء الوضع: أسماء الإشارة موضوعة لموضوع خاص، فكلمة (هذا) صالحة لكل ما تشير إليه.
ولكن لا يستعمل إلا لفرد واحد معيَّن عند الاستعمال، تقول: هذا الرجل هذا الكتاب هذا العمود فتعيَّن هذا العمود دون عمد المسجد كلها، مع أنها صالحة أن تستعمل مع كل عمود على حدة، ولذا كان التعيين بلسانه صلى الله عليه وسلم لأهمية الأمر.