ثم نأتي إلى جواب الرسول صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك) : الثكل هو فقد الولد، كما جاء عن بعض الأعراب (ثكل أرأمها ولداً) ، وهي امرأة كان لها ولدان أحدهما فارس شجاع جيد، والآخر عادي مُهمَل، فكان تعنى الأم بالولد النجيب الفارس وتهمل الثاني، فقُتِل الولد النجيب -والمثل موجود في كتب الأدب- فلما قتل النجيب لم يبق إلا ذاك المسكين الضعيف، صارت الأم تحنو على هذا، فقالوا: هنيئاً لك أمك تحنو عليك، قال: ثكل أرأمها ولداً.
أي: ثكلها بولدها الذي ذهب هو الذي جعلها تعطف علي، وقبل هذا ما كانت تسأل عني.
وهنا مسألة: من المعروف أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن سباباً ولا لعاناً ولا فاحشاً، فكيف يصدر منه في حق معاذ قوله: (ثكلتك أمك) وهو الذي قال له: (والله إني لأحبك؟!) .
يقول العلماء: تلك ألفاظ تقال ولا يراد معناها، وإنما هي عبارات تجري على اللسان كضرب المثل، تعبر عن عدم الرضا، وقد جاء أبعد من هذا، فلما كان صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وبعد أن طاف بالبيت سأل عن صفية -وكانت نوبتها- فقالت له عائشة: إنها حائض.
فقال (عقرى حلقى -لغة قريش- أحابستنا هي؟ ثم قال: أكنت أفضت -طفت- يوم النحر.
قالت: نعم قال: فانفري إذاً) .
فهنا قوله صلى الله عليه وسلم: (عقرى حلقى) ، العقر: إصابة بمصيبة، يقولون: عقر الدابة إذا ضرب عرقوبها، والعاقر التي لا ولد لها.
وهل يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم على زوجة من زوجاته أن تكون عاقراً لا تلد! هذا أكبر عيب في النساء.
حلقى: يعني حالقة شعر رأسها، والمرأة لا تحلق الشعر إلا في أكبر المصائب، إذاً: هل الرسول يدعو على زوجة من زوجاته بهذه الألفاظ؟ قال العلماء: إنما هي كلمات تجري على الألسنة دون إرادة معناها.
كالوالد أو الوالدة عندما يجري على لسانه بالدعاء على ولده إذا غضب عليه ولا يقصد ذلك.
فهذه أشياء تجري على اللسان غير مرادة، وما هنا كذلك، لكنه يبين عظيم خطر الموقف، لأن هناك لو لم تكن طافت طواف الإفاضة فإنها ستحبسهم أسبوعاً حتى تطهر، والناس كلهم متجمعون ولن ينفر أحد قبل أن ينفر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحصل مشقة على الناس.
وهنا يستعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نهمل حصائد الألسنة فقال: (ثكلتك أمك يا معاذ) .
وهل يكب: إذا سقط الشخص على ظهره يقال له: استلقى على قفاه، وإذا سقط على وجهه يقال: انكب على وجهه، وهنا: (وهل يكب) استفهام، لكن من باب الاستنكار، ولذلك قال: (وهل يكب الناس على وجوههم في النار) ، ما قال يلقيهم، بل قال: يكبهم على وجوههم، لأنه أشد من الإلقاء، أو قال: (على مناخرهم) ، وليس هناك تعارض، لأن المناخر من الوجوه، ولكن ذكر المناخر لأنها موضع الأنفة والكبر، ولذلك قال الله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] فجعل موضع الأنفة والاستكبار أول ما يلامس الأرض ليعبر عن مدى مهانة صاحبه.