إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف ذكر لـ معاذ (تعبد الله لا تشرك به شيئاً) ، وحقيقة ذلك تحقيق لا إله إلا الله، بأن تنفي جميع الآلهة، ولا تعبد إلهاً قط إلا الله، بخلاف المشركين الذين يقولون: أجعل الآلهة كلها إلهاً واحداً، لأنه كان لهم ثلاثمائة وستون صنماً في الكعبة، وهو يريد أن يلغي هذا كله إلى إله واحد.
فحقيقته توحيد الله هو أن تعبد الله وحده، ويتحقق هذا في قولك (لا إله إلا الله) ، فلا مألوه ولا معبود بحق إلا الله، ثم جاء بعد ذلك بالصلاة والصيام وغيرها.
وهنا يقول له: (ألا أدلك على أبواب الخير) ، أليست الصلاة والصيام التي ذكرها أولاً من أبواب الخير؟ نعم هي منها، بل هي الخير كله، ولكن لماذا يعيدها هنا في أبواب الخير؟ للحديث النبوي مثلما يقولون ذوق وحلاوة، وله نور وطلاوة، ذكر صلى الله عليه وسلم أصول الإسلام التي تدخل الجنة؛ لكن أبواب الخير هي محل المنافسة، وهي محل الزيادة، فالصلوات الخمس وصوم رمضان وزكاة الفريضة وحج البيت، الكل في ذلك سواء، أهناك شخص عليه ستة فروض وآخر عليه أربعة؟ أهناك شخص عليه صيام شهر والآخر نصف شهر أو شهرين؟ الناس متساوون في هذا، نصاب الزكاة على الجميع سواء، عشرون دينار في الذهب، ومائتا درهم في الفضة، وأربعون شاة في الغنم، وخمس من الإبل، كل هذه معروفة عند الجميع وهم متساوون فيها، ولكن أبواب الخير تزيد وتتسع، وتضيق وتقل، فهي قابلة للزيادة، ولكن أركان الإسلام لا تقبل زيادة ولا نقصاً، فهي خمس صلوات، وكل صلاة لها عدد مخصوص.
يدلنا على هذا المعنى الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) ، والفرض ليس فيه زيادة ولا نقص ثم قال: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) ، لماذا قال (يتقرب) ولم يقل (يقرب) ؟ سبحان الله العظيم، لو قلت (يقرب) لتحقق بخطوة واحدة، لكن يتقرب، تدل على أنها خطوات، قد تزيد وقد تنقص نافلة بعد نافلة.
وذكر الصوم مرة أخرى ليس من باب التكرار بلا فائدة، فحديث البلغاء يتنزه عن ذلك، والمصطفى صلى الله عليه وسلم هو سيد البلغاء، إذاً: إعادة الصوم هنا تحت عنوان أبواب الخير لا يتنافى ولا يتعارض، ولا يكون مكرراً مع الصلاة والصيام التي ذكرت في أول الحديث، لأنها ذكرت هناك على سبيل الفرض والتحديد والإلزام، وذكرت هنا على أنها من أبواب النافلة وأبواب الخير التي تترك لجهد العامل.
وقد جاء عند مسلم: (أن أعرابياً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! جاءنا رسولك يخبر أنك رسول الله، أحقاً ما يقول؟ قال: بلى، قال: فبالذي رفع السماء ونصب الجبال، وبسط الأرض وجعل فيها ما جعل، آلله أرسلك؟ قال: بلى.
قال: وأخبرنا رسولك أن الله افترض علينا خمس صلوات في اليوم والليلة، فبالذي رفع السماء، ونصب الجبال، وسط الأرض وجعل فيها ما جعل، آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم) الحديث، وذكر فيه الزكاة والصوم والحج.
والرجل الذي جاء للرسول في المسجد فقال: أخبرني ماذا كتب الله علي من الصلاة؟ قال: (خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع) ، ثم ذكر الصيام والزكاة والحج، ثم قال: (والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فقال: أفلح إن صدق) .
وهنا الرسول يقول لـ معاذ: (ألا أدلك على أبواب الخير) ، لماذا لم يقل كن مثل ذلك الأعرابي؟ الأعرابي جاء بنفسه وأخذ نفسه بحد السيف، قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد ولا أنقص، فهو التزم وألزم نفسه بشيءٍ كبير، ما هو بهين، الذي لا ينقص مما فرض الله عليه، هذا التزام بأقصى ما يكون، فالرسول أخبر بأنه إذا نفذ هذا أفلح، ولكن معاذاً يسأل عن العمل الذي يقربه إلى الجنة، ومعاذ راغب في الخير، فكان هذا بياناً للأمة في شخصية معاذ.