الحكمة من جعل قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم ... ) بين آية الصوم وآية الأهلة
ولذا في قوله سبحانه في {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] ، جمع باباً واسعاً من الآداب، وهنا كذلك: (الصوم جنة) ، وإذا استمر الإنسان في جُنَّة الصوم إلى أن جاء العيد وخرج رمضان، هل يمزق هذه الجُنَّة أو يحافظ عليها؟ يحافظ عليها، لكن ليس الحفاظ عليها من الطعام والشراب؟ لأن ذلك أصبح مباحاً له، بل يحافظ عليها مما حرم الله.
ولذا نجد أن الله لما ذكر فريضة الصيام في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ذكر بعدها مباشرة {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] وجعلها قبل آية الأهلة التي هي من لوازم الصوم، وبها يتحدد ويدخل الشهر، ولماذا هذا؟ أما كان يستطيع أن يجعل قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} قبل آية الصوم، أو بعد آية الأهلة، أو في سورة أخرى؟ والمقصد من ذلك -والله أعلم-: كأن المولى سبحانه يوقف الصائم عن الحلال، يقول الآن انتهيت من صومك، ويأتي الهلال وتفطر لشوال؛ لكن اعلم إن كنت صمت فعلاً شهراً كاملاً عن الحلال، فلا تفطر من الغد على الحرام، وتأكل أموال الناس بالباطل وتدلي بها إلى الحكام لتأكل فريقاً من أموال الناس بالإثم.
فتنعم بالاستتار في جبة غير ممزقة مرة من الزمان، فإن عرض لها شيء من الخرق جاء رمضان آخر ليجدد لك جبتك من جديد.
ولا أعتقد أن إنساناً فاتته لذة الاتقاء بجنة الصوم، حينما يكون في رمضان ويأتيه من يسول له بالمعاصي -يدفعه الشيطان دفعاً- فإذا به يتمالك نفسه ويصبر ويترك هذا ويقول ونفسه مرتاحة ومطمئنة: إني صائم، كل إنسان يشعر بهذا، وبالتأكيد من يسول بالمعاصي عندما يجد هذا الموقف من هذا الصائم سيستحي، ولذا يقول العلماء: هل يقول هذه الكلمة -إني صائم- في سره ليمنع نفسه، أو يقولها علانية يُسمع خصمه ليكف أذاه عنه؟ والأولى هنا -والله أعلم- أن يظهرها ويسمع خصمه مقالته.