كان الأئمة الأربعة رضوان الله تعالى عليهم لا يريدون إلا الحق، ولا يقصدون إلا تطبيق كتاب الله وسنة رسوله، وقد تكلم الإمام ابن تيمية رحمه الله في هذا الباب، ومن أجود ما كتبه في ذلك كتابه: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ، وذكر فيه عشرة أسباب تؤدي إلى الخلاف بينهم، وكل معذور فيما ذهب إليه، وبين أنه ليس لأحد من الأئمة المعتبرين أن يخالف قصداً وعمداً نصاً من كتاب الله أو من سنة رسول الله، حاشا وكلا، ولكن: قد يبلغه الحديث بسند لا يثق بصحته، أو يأتي الحديث له عدة معان، أو يظن أن فيه نسخاً أو غير ذلك، فيعمل بحسب ما يغلب على ظنه.
والأئمة الأربعة رحمهم الله متقاربين في الزمن فيما بينهم، فكان أبو حنيفة رحمه الله قبل مالك، ومالك أدرك عهد أبي حنيفة، ثم جاء الشافعي فأدرك مالكاً، وأخذ عنه الموطأ، وقدم محمد بن الحسن صاحب أبي حنفية إلى المدينة فأخذ الموطأ عن مالك، وله موطأ خاص باسمه: موطأ محمد وقد مكث في المدينة ثلاث سنوات، وأحمد رحمه الله لقي الشافعي، وتداولوا وكانوا في الزمن متقاربين، ولكل واحد منهم مبادئ التزمها، وبنى عليها مذهبه، وأصبح لكل بعض الاختلافات التي أدى إليها اجتهاد كل منهم.
ومع ما كان بينهم من خلاف، فما كان يوقع بينهم عداوة ولا شحناء، بل كل يكن للآخر التقدير والتبجيل، ونعلم أن أحمد رحمه الله كان يرى الوضوء من أكل لحم الجزور، فيسئل: لو رأيت إنساناً أكل لحم الجزور -وهو لا يرى الوضوء منه- أكنت تصلي خلفه؟ قال: وكيف لا أصلي خلف سفيان الثوري وأمثاله؟ فالخلاف في وجهة النظر في حكم فرعي لا تؤدي إلى المخالفة بين المسلمين.
وهكذا -أيها الإخوة- كان أحمد يصلي مع الشافعي، وكان الشافعي كان يصلي مع أحمد، والشافعي يصلي مع مالك مع أنه يرى أن مجرد لمس المرأة ينقض الوضوء، ومالك وأحمد لا يريان النقض باللمس، والشافعي يقول: مجرد اللمس ينقض، ومع ذلك ما كان الشافعي يمتنع من الصلاة خلف مالك، ولا كان يختلف مع أحمد.
وأصحاب الأئمة رحمهم الله فيما بينهم قد يختلفون إذا كانت المسألة موضع بحث أو موضع اجتهاد لا نص صريح فيها، ولقد وجدنا أحمد ينفرد بمسائل، وألفت المؤلفات كـ (مفردات مذهب أحمد) ، وكذلك الشافعي انفرد بمسائل، ووجدنا ابن كثير ألف كتاباً (فيما انفرد به الشافعي عن الأئمة الثلاثة) ، بل وجدنا الخلاف داخل المذهب الواحد، فهذا الدبوسي من علماء الأحناف يؤلف كتابه: (تأسيس النظر) جمع فيه مسائل خالف فيها أبو حنيفة أصحابه أبا يوسف ومحمد وزفر، ثم مسائل أخرى خالف فيها أبو يوسف أصحابه: أبا حنفية ومحمد وزفر، ومسائل أخرى خالف فيها محمد أصحابه: أبا حنفية وأبا يوسف، وهكذا كل يخالف أصحابه في عدة مسائل، ولم يقع نزاع ولا خلاف في المذهب.
ورأينا رسالة لا زالت مخطوطة لـ ابن عبد البر بعنوان: (ما خالف فيه أصحاب مالك مالكاً) ، يعني: أصحابه يخالفونه في بعض المسائل، ولم يقع النزاع ولا الخصومة بين المالكية أنفسهم.
وهكذا يوجد الخلاف فيما يقتضيه النظر، بلا نزاع ولا شقاق، ومما سبق يتبين لنا أنهم كانوا يختلفون لا ليخالف بعضهم بعضاً، ولكن ليصلوا إلى الحقيقة المرجوة، وإذا تحقق النص أو ظهرت الحقيقة فسرعان ما يتناولونها ويقفون عندها، وهذه قصة أبي يوسف رحمه الله صاحب أبي حنيفة الأول، يأتي مع الرشيد إلى المدينة، ويجالس مالكاً، ويأتي البحث في مقدار الصاع، فقيل لـ مالك: كم مقدار الصاع؟ فقال مالك: الصاع عندنا خمسة أرطال وثلث، فيقول أبو يوسف: لكنه عندنا ثمانية أرطال، كما قال بذلك إمامنا أبو حنيفة، فقال مالك رحمه الله للجلساء عنده: من كان عنده صاع -تخرج فيه زكاة الفطر- من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأتنا به غداً، ومن الغد يأتي الرجل ويخرج من تحت ردائه الصاع ويقول: حدثتني أمي عن جدتي أنهم كانوا يخرجون به زكاة الفطر زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر يقول: حدثني أبي عن جدي، والآخر: عمي عن جدي، والآخر: خالي عن كذا واجتمع عند مالك نحواً من خمسين صاعاً، يقول أبو يوسف: ونظرت فيها فإذا هي متقاربة، فأخذت واحداً منها وذهبت إلى السوق، وعايرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث، يقول أبو يوسف: فرجعت إلى العراق، وقلت لهم: جئتكم بعلم جديد، قالوا: وما ذاك؟ قال: الصاع خمسة أرطال وثلث في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: خالفت شيخ القوم! يعني: أبا حنفية، فقال: وجدت أمراً لم أستطع له مدفعاً، وإلى الآن عند الأحناف أن مذهب أبي يوسف أن الصاع خمسة أرطال وثلث، والصاع عند محمد وعند أبي حنفية وزفر ثمانية أرطال، فهل اختلف أبو يوسف مع أصحابه وتنازعوا وانشقوا؟ لا والله! ونذكر موقف مالك رحمه الله من الخلاف الذي لا يمكن أن يرفع، حينما جاء إلى دار الإمارة فطلب منه الرشيد أن يأته بالموطأ، ليقرأه على الأمين والمأمون، فاعتذر مالك وقال: إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، فقال: اجعل لنا موعداً، فجعل له موعداً، فجاء الخليفة إلى بيت مالك! فأبطأ عليه مالك في الخروج، فقال: يا مالك! طلبناك فامتنعت علينا، وجئنا فحبستنا على دارك، لماذا؟! قال: أما طلبك إياي فقد علمت أنك ما طلبتي لمال ولا لرياسة وإنما للعلم، والعلم يؤتى إليه ولا يأتي، وإن موقف الخلفاء والأمراء على أبواب العلماء ليزيدهم شرفاً، بخلاف موقف العلماء على أبواب الملوك والأمراء، قال: أريد أن تقرأ عليّ كتابك، قال: يا أمير المؤمنين! إن هذا العلم لا ينفع سراً، قال: ما تريد؟ قال: في حلقة الدرس في المسجد مع عامة الناس، فامتثل لذلك، وعلم الخدم فهيئوا كرسياً للخليفة، فجاء مالك وجلس مجلسه وبدأ بحديث: (من تواضع لله رفعه الله) فقال: يعنيني، أخروا هذا الكرسي، وجلس فسمع، وبعد أن سمع من الموطأ قال: إني عزمت على أمر، قال: ما هو؟ قال: أن أعلق الموطأ على الكعبة، وأبعث نسخاً منه إلى الأمصار، وأمنع أي مذهب سواه، وأحمل عامة المسلمين على ما فيه توحيداً لهم.
انظروا إلى هذا العرض أيها الإخوة! ماذا كان موقف مالك؟! قال: لا يا أمير المؤمنين! لا تفعل، قال: لماذا؟ قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في الأمصار، وحدث كل بما سمع من رسول الله، واستقر عمل كل مصر على ما بلغهم عن رسول الله، فلا تغير على الناس ما هم عليه.
انظروا -أيها الإخوة- بعد هذا النظر! مع وجود الخلاف وإرادة حمل الناس على كتابه ما فرح بذلك، قال: لا، دع الناس على ما هم عليه.