ومن الخلاف الذي وقع في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم، ما قدمنا من قضية أبي بكر رضي الله تعالى عنه في جمع القرآن في صحف، وكذلك ما كان في زمن أبي بكر مع عمر في قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، لما قال أبو بكر: (والله! لو منعوني عناقاً أو عِقالاً -أو عَقالاً- كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) ، فيقف عمر أمامه: يا أبا بكر! أتقاتل قوماً يشهدون أن لا إله الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؟!) فقال أبو بكر: (يا عمر! أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إلا بحقها؟) إن الزكاة من حقها، والله! لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة، فشرح الله صدر عمر إلى ما ذهب إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنهما) .
فهذه وجهة نظر خلاف وليست مخالفة.
وفي خلافة عمر رضي الله تعالى عنه صعد عمر أمير المؤمنين على المنبر، وأراد أن يحدد مهوراً للنساء، على قدر مهور زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته، فقامت امرأة وقالت: يا عمر! لم تحرمنا من شيء أحله الله لنا؟! قال: وما ذاك، قالت: في قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20] ، فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر! ورجع عما كان يريد أن يفعل.
وكذلك في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، كانوا في طريقهم إلى الحج، وجاء المقداد بن الأسود إلى علي رضي الله تعالى عنه وقال: يا علي! ألا ترى ما قال عثمان! قال: وما يقول؟ قال: يقول: ليس هناك قران الحج والعمرة، وليس هناك إلا التمتع أو الإفراد، وفي رواية الموطأ: وعلي على يده أثر العجين والخبز، فدخل على عثمان فقال: ما هذا الذي سمعت منك؟! قال: شيء رأيته، فقال: ألم نفعل ذلك مع رسول الله؟! فلم يحر جواباً! قال: شيء رأيته ليكثر الوافدون إلى بيت الله، فقال علي: لبيك -اللهم- حجة وعمرة معاً، فـ علي كان مفردا، ً فأضاف العمرة إلى الحج في ذلك الموقف ليبين بأن السنة التي كانت زمن رسول الله يعمل بها ولا تعطل، فهل عارض عثمان علياً؟ هل تخاصم عثمان مع علي؟ لا، بل بقيا على ما هما عليه من الخير والمودة.
ولما جاء عثمان إلى منى وعرفات أتم الصلاة، فتحدث معه عبد الرحمن بن عوف، فبين له وجهة نظره، فقال: إني اتخذت أهلاً بمكة، ولي مال بالطائف، وإن الأعراب لما قدموا للحج قالوا: إن الرباعية في مكة صارت ركعتين، وأخشى أن يأخذ الأعراب مني ذلك، فأردت أن أتم الصلاة ليعلموا أن الرباعية على ما هي عليه، فقال له ابن عوف: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام يقصر، والأعراب يأتون من كل مكان، وكان أبو بكر كذلك، وكان عمر كذلك، وكنت أنت في أول خلافتك تصلي الركعتين، فلماذا؟ فما أجابه بشيء، ورجع ابن عوف من عنده، ولقي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، فقال له ابن مسعود: إذا صليت مع قومك فصل ما شئت، وإذا صليت معه فوافقه، وإني لأوافقه في الأربع، فقال ابن عوف: أما أنا فقد كنت أصلي مع قومي ركعتين، والآن أصلي أربعاً، مجانبة للخلاف.
وهكذا في زمن علي رضي الله تعالى عنه، والخلاف في زمنه أكثر من أن يحصى!