وقع من الخلاف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمور عديدة، ومن أهمها وأعظمها عند العلماء: نقض اليهود للعهد حال وقعة الخندق، ثم رجع المشركون إلى ديارهم: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب:25] ، وقد نقض اليهود عهدهم، وكانوا من قبل في عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كتب صحيفة عهد بين المسلمين وبين اليهود، وكان مما اشترط على اليهود: أن يعاونوا المسلمين إذا دوهموا، وألا يعينوا عليهم عدواً إذا حاربهم، ولما قدر الله سبحانه وتعالى أمره في الأحزاب، وكفى الله المؤمنين القتال بجنده، وأرسل عليهم الريح لتطفئ نارهم، وتكفئ قدورهم، وتقتلع خيامهم، قال أبو سفيان: لا مقام لكم، فانصرفوا، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى بيته، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها، فإذا بالباب يطرق، ورجل يسلم، فخرج صلى الله عليه وسلم مسرعاً، فنظرت فإذا دحية الكلبي يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع صلى الله عليه وسلم ونادى في الناس: (من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة) ، فجبريل جاء في صورة دحية، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذهاب إلى بني قريظة الذين نقضوا العهد ساعة العسرة، وكان ذلك قبل أن يؤذن العصر، فخرج الناس، وفي طريقهم إلى بني قريظة، وجب وقت العصر، فانقسموا إلى قسمين: قال قوم منهم: لا صلاة إلا في بني قريظة، انتقل وقتها، وتعين صلاتها حيث أمر رسول الله في بني قريظة.
وقال آخرون: لا، ليست المسألة على حرفيتها، بل على روحها ومعناها، وروحها ومعناها: أن نبادر بالذهاب إلى بني قريظة، وهذا وقت الفريضة، نصلي ونبادر بالمسير.
فقسم صلى العصر في وقتها في مكانه، وقسم أخر صلاة العصر حتى جاء إلى بني قريظة، وكانت قد غربت الشمس، فصلوا العصر بعد غروب الشمس في بني قريظة، وهنا وقع الخلاف بينهم، فمن الذين نال موافقة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرضوا عليه الأمر، فما عاتب أحد الفريقين، ولا أنكر عليه، وهنا يقول العلماء: إذا جاء النص واختلف فيه السامعون، وعمل كل بما أداه إليه اجتهاده بقصد الوصول إلى تحقيق مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؛ فحينئذ قد أدى كل منهم ما عليه، فهؤلاء إن كانت الصلاة قد انتقل وقتها ومكانها إلى بني قريظة فالذين صلوا في الطريق صلاتهم في غير وقتها، وإن كانت الصلاة على وقتها كان الذين أخروها قد أخروها حتى خرج وقتها، فيلزم أحد الفريقين الإعادة.
ولكن: لما أقر الفريقين، ولم يعاتب المبادرين بالصلاة، ولم يعاتب المؤخرين، عرفنا أن كلا الفريقين محق ومعذور فيما ذهب إليه؛ ولذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) .
هذا خلاف بين يدي رسول الله.
وخلاف آخر وقع قبل ذلك في أسارى بدر، لما جيء بهم وهم سبعون أسيراً، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: (ماذا نفعل بالأسارى؟) .
فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! بنو عمنا وإخواننا نقبل منهم الفداء، ولعل الله أن يهديهم إلى الإسلام، فيكونون عوناً للمسلمين، ونستعين بالفداء الذي نأخذه منهم، فسكت، فقال عمر: يا رسول الله! أرى أن تمكن من كل إنسان منا قريبه فيضرب عنقه، حتى يعلم الكفار ألا هوادة بيننا وبينهم، فسكت، وقال آخر: يا رسول الله! أرى أن تجمعهم في وادٍ كثير الحطب، وتؤجج ناراً فتحرقهم، فسكت، ثم دخل بيته صلى الله عليه وسلم ثم خرج، وهم يقولون: لا ندري برأي من يأخذ! ومن الغد يقول عمر رضي الله تعالى عنه: جئت فإذا رسول الله وأبو بكر والمسلمون يبكون، فقلت يا رسول الله! أخبروني على ماذا تبكون، فإن وجدت بكاءً بكيت معكم، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (لو نزل عذاب ما نجا إلا ابن الخطاب) ، ثم قال: (مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام حينما قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36] ، وقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] ) ، ثم نزلت الآية: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ.
} [الأنفال:67] إلى آخره، فعاتب الله رسوله في أمر الفداء، ولكن أباحه لهم فاختلف أبو بكر مع عمر في بادئ الأمر، ولم يكن هذا الخلاف مؤدياً إلى شقاق بينهم، وقضي الأمر من الله سبحانه وتعالى.
ومن الخلاف ما وقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيداً عنه، وانتهى الأمر إليه، وذلك أن رجلين كانا في سفر، فلما لم يجدا ماءاً تيمما وصليا في الوقت، ثم وجدا الماء قبل انتهاء الوقت، فتوضأ أحدهما وأعاد الصلاة، ولم يتوضأ الآخر، عملان مختلفان! وهذا اختلاف وليس مخالفة، فلما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضا عليه الأمر، فقال للذي توضأ وأعاد: (لك الأجر مرتين) ، وقال للذي اكتفى بالتيمم ولم يتوضأ ولم يعد: (أصبت السنة) .
ولسنا بحاجة بعد ذلك أن نقيم النقاش والخلاف في أي الطرفين أولى، هل الذي أصاب السنة أو صاحب الأجرين؟ وهل الذي أخذ الأجر مرتين خالف السنة؟ لو خالفها ما حصل على شيء، المهم أقر النبي صلى الله عليه وسلم كلا الرجلين فيما عمل، وكل منهما خالف الآخر في عمله.